الخميس، 8 ديسمبر 2011

كيف تكون العجلة من الشيطان



ذكر زين الدين العراقي في تخريج أحاديث الإحياء قال: حديث حاتم الأصم: العجلة من الشيطان إلا في خمسة فإنها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إطعام الطعام، وتجهيز الميت، وتزويج البكر، وقضاء الدين، والتوبة من الذنب. أخرجه الترمذي من حديث سهل بن سعد: الأناة من الله، والعجلة من الشيطان. وسنده ضعيف. وأما الاستثناء فروى أبو داود من حديث سعد بن أبي وقاص: التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة. قال الأعمش: لا أعلم إلا أنه رفعه. وروى المزي في التهذيب في ترجمة محمد بن موسى بن نفيع عن مشيخة من قومه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأناة في كل شيء إلا في ثلاث: إذا صيح في خيل الله، وإذا نودي بالصلاة، وإذا كانت الجنازة... الحديث مرسل، والترمذي من حديث علي: ثلاثة لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤا.. وسنده حسن.
فهذا هو غاية ما ذكر في هذا الأمر، وأجودها سندا حديث علي: ثلاثة لا تؤخرها.. فقد أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه الذهبي، وكذلك أخرجه أحمد في مسنده والبيهقي في سننه.(الشبكة الإسلامية)
تخيل نفسك لو خرجت من بيتك تقود سيارتك مسرعاً ، أو لو اتخذت- على عَجلٍ، قراراً في مسألة ما , أو لو أن عامل البناء أنجز عمله على عجل أو أن الطبيب أجرى عملية الجراحة بسرعة عالية أو أن المدرس شرح درس الفيزياء أو الرياضيات بسرعة ، أو أن ربة البيت طهت الطعام بسرعة. تخيل الأخطاء التي قد تحدث نتيجة العجلة فمثلا السائق قد تقوده السرعة إلى إزهاق أرواح الناس ، والبنّاء قد لا يتقن عمله كما يستطيع، والمدرس قد لا يحقق أهداف الدرس المأمولة وربة البيت قد تفسد الطعام.
فالشاهد في هذه المسألة أننا نحن المسلمون مطالبون من الله تعالى ومن رسوله الكريم بإتقان العمل، فالله تعالى يقول مخاطباً المؤمنين في كتابه العزيز:
وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ .(التوبة 103-105)
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه. أخرجه أبو يعلى والطبراني، وقد صححه الألباني في الصحيحة نظرا لشواهده.(الشبكة الإسلامية).


ولكن العجلة في معظم الحالات تؤدي إلى عكس ذلك فنكون بذلك قد خالفنا الله عز وجل ورسوله الكريم، فيكون للشيطان نصيب في أعمالنا المستعجلة.
والآن تخيل لو كانت العجلة في أداء العبادات مثل الوضوء والصلاة ، فمثلاً إذا أدّيت الصلاة على عجلة من أمرك فقد تسرق منها الاطمئنان في أداء السجود والركوع والوقوف فعن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته.
فقالوا: يا رسول الله وكيف يسرق من صلاته؟ قال: (لا يتم ركوعها ولا سجودها) أو قال: (لا يقيم صلبه في الركوع والسجود) رواه أحمد والطبراني وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح الاسناد، كما أنك لا تستطيع الخشوع والخضوع لله تعالى في الصلاة المستعجلة، وبذلك يكون قد نال الشيطان منها حظاً.  والله أحكم وأعلم



الخميس، 15 سبتمبر 2011

العهد مع الله تعالى

قال الله تعالى( َالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ )( الرعد25)

جاء في تفسير بن كثير رحمه الله تعالى :هذا حال الأشقياء وصفاتهم ، وذكر مآلهم في الدار الآخرة ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون ، كما أنهم اتصفوا بخلاف صفاتهم في الدنيا ، فأولئك كانوا يوفون بعهد الله ويصلون ما أمر الله به أن يوصل ، وهؤلاء ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض كما ثبت في الحديث : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان " وفي رواية : " وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " .
ولهذا قال : (أولئك لهم اللعنة) وهي الإبعاد عن الرحمة ، ( ولهم سوء الدار) وهي سوء العاقبة والمآل ، ومأواهم جهنم وبئس القرار ،انتهى كلام بن كثير .


نلاحظ أن الله تبارك وتعالى في هذه الآية حدّد صفات الفاسقين وهي ثلاث: نقض العهد وهو عهد التوحيد أي عبادة الله وحده لا شريك له، وقطعهم للرحم وغيرها وإفسادهم في الأرض بارتكاب المعاصي والذنوب ومخالفة أوامر الله عز وجلّ وفعل نواهيه فاستحقوا بذلك العذاب الشديد وطردهم من رحمة الله سبحانه.
وهذه الصفات تماما عكس ما يتصف به المؤمنون، ففي الآيات التي سبقت الآيات عن المنافقين من نفس السورة يقول الله تبارك وتعالى : 
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ* وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ*
وقد ضرب الله أمثالاً كثيرة عن الذين ينقضون عهودهم مع الله سبحانه فمثلاً في سورة الأنعام يقول الله عز وجل:

(قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين* قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ) الأنعام63-64
ومثل آخر في سورة التوبة، في قوله تعالى عن المنافقين:
وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ (التوبة75-77) 

وهنا يَجدرُ التحذير من خداع النفس لصاحبها فقد توسوس له بنقض العهد مع الله تعالى بالنكوص إلى الوراء لمخالفة أمر الله تعالى وإتباع الشيطان ليضله ضلالاً بعيدا إلى أن يصل بالعبد إلى الإشراك بربه تبارك وتعالى ، فيهوي به إلى سوء الدار،أعاذنا الله عز وجل وإياكم من سوء العاقبة.

الأحد، 22 مايو 2011

لو كنتُ عصفوراً


لـَـوْ كُنْتُ عُصفوراً
في صَباحٍ خَريفيٍّ باكرٍ،جَلـَـسَ مُحَمَّدٌ عَلى الحَصيرةِ في غُرْفَـتِهِ وَأخَذَ يُفَكِّرُ في صَمْتٍ،اليَوْمُ هُوَ أوَّلُ أيَّامِ السَّنةِ الدِّراسِيَّةِ في المُخَيَّمِ،وَسَوْفَ يَدْخُلُ الصَّفَّ الخامِسَ،سَيَتَعَلـَّـم أشْياءَ جَديدةً،وَرُبَّما يَحْصُلُ عَلى كُتُبٍ جَديدَةٍ.وَمُحَمَّدٌ يَهْوى الكُتُبَ لكِنَّهُ لا يَتَمَكَّنُ مِنَ الحُصولِ عَلَيْها إلا في أوْقاتٍ نادِرَةٍ..أحْياناً كانَ يَسْتَعيرُ كُتُباً مِنْ أساتِذَتِهِ أوْ مِنْ شَيْخِ المَسْجِدِ، ذاتَ مَرَّةٍ أحْضَرَ لَهُ والِدُهُ كِتاباً مِنْ مَكْتَبَةِ المَدينَةِ وَكانَ أجْمَلَ الكُتُبِ الَّتي قَرَأها عَلى الإطْلاقِ،لكِنَّهُ تَذَكَّرَ أيْضاً أنَّ ذلِكَ الكِتابَ كَلَّفَ والِدَهُ الكَثيرَ؛حَيْثُ اضْطُرَّ والِدُهُ لِلْعَمَلِ أسبوعاً كامِلاً فِي تَنْظيفِ المَكْتَبَةِ مُقابِلَ أنْ يَحْصُلَ عَلى ذلِكَ الكِتابِ،وَكانَ هذا يُؤْلِمُ مُحَمَّداً كَثيراً.
كانَتْ عائِلَةُ مُحَمَّدٍ فقيرةً جِدَّاً شَأنَ مُعْظَمِ العائِلاتِ اللاجِئَةِ في المُخَيِّمِ.لذلِكَ قَرَّرَ مُحَمَّدٌ مُنْذُ الصِّغَرِ أنْ يَجْتَهِدَ في دُروسِهِ،فَقَدْ أخْبَرَهُ والِدُهُ ذاتَ يَوْمٍ أنَّ بِالعِلْمِ فَقَطْ يَسْتَطيعُ الإنْسانُ التَّغَلُّبَ عَلى الفقرِ.كانَ والِدُهُ حَريصاً جِدَّاًعَلى تَعْليمِهِ،وَكانَ يَعْمَلُ طَوالَ النَّهارِ أعْمالاً شاقَّةً وقاسِيَةً،فَيَخْرُجُ السّاعَةَ السّادِسَةَ صَباحاً،وَيَتَوَجَّهُ إلى المَدينةِ لِيُنَظِّفَ أحْذِيَةَ المارَّةِ وَيَجْمَعُ نُفاياتِ الشُّقَقِ مُقابِلَ أجْرٍ زَهيدٍ،وَكانَ يَمْضي الليْلَ في حِراسَةِ وَتَنْظيفِ المَصانِع والمَدارِسِ،وَكُلُّ ذلك لِيُوَفِّرَ المَبْلَغَ اللازِمَ لِتَعْليمِ مُحَمَّدٍ،وذلِكَ يُحْزِنُ محمداً،لكِنَّهُ أيْضاً يَدْفَعُهُ إلى الإجْتِهادِ وَالعَمَلِ.كانَ والِدُهُ يَقولُ لَهُ "رُبَّما تَسْتَطيعُ يَوْماً ما أنْ تَلْبِسَ بَذْلَةً سَوْداء وتَحْمِلَ حَقيبةً وَتَكونَ مُهَنْدِساً أوْ مُحامِياً أوْ طَبيباً،عِنْدَها أسْتَطيعُ أنْ أرْفَعَ رأسي وأفْخَرَ بِكَ، لكِنِّي أخافُ أنْ تَخْجَل أنْتَ مِنِّي لأنِّي أمْسَحُ أحْذِيَةَ المارَّةِ وَأعْمَلُ حارِساً،لا تَخْجَلْ مِنْ أهْلِكَ يا بُنَيَّ،لا تَنْسَ أهْلَكَ يا وَلَدي"،فَيَصيحُ مُحَمَّدٌ"لا تَقُلْ هذا،هذا لَنْ يكون".
هُناكَ شَبابٌ غادروا المُخَيَّمَ وَلَمْ يَعودوا،تَركوا أهْلَهُمْ وَسافَروا بَعيداً،كان مُحَمَّدٌ يَتضايَقُ عِنْدَما يَتَحَدَّثُ أبوهُ عَنْهُمْ، وَكانَ يَكْرَهُهُمْ،إنَّهُ لا يَتَصَوَّرُ أنَّ هُناكَ أحَدٌ يَسْتَطيعُ أنْ يَتْرُكَ أهْلَهُ..وَهُوَ مُنْذُ أنْ كانَ صَغيراً وَأبوهُ يُعَلـِّـمُهُ أنْ" لا تَعُضَّ اليَدَ الَّتي أطْعَمَتْك" فَكَيْفَ إذا كانَتْ هذِهِ اليَدُ أيْضاً هِيَ يَدُ الحَنانِ والعَطْفِ وَالحُبِّ وَيَدُ أمِّهِ عائِشة أوْ يَدُ أبيهِ عَبْدِ الرحمن؟.
في هذِهِ اللحَظاتِ قَطَعَ تَفْكيرَهُ صَوْتُ أمِّهِ:"مُحَمَّدٌ،إنَّها السّاعَةُ السّابِعَةُ،تعالَ وافْطِرْ".تَناوَلَ مُحَمَّدٌ حَقيبَتَهُ وَنَظَرَ إلى أخْتِهِ الصَّغيرَةِ النَّائِمَةِ وَفَكَّرَ في نَفْسِهِ"لا شَكَّ أنَّها تَحْلُمُ حُلْماً جَميلاً".خَرَجَ مُحَمَّدٌ مِنَ الغُرْفَةِ وَقالَ لأمِّهِ:"لا أريدُ أنْ أفْطِرَ"، فَسَألَتْهُ إنْ كان يُريدُها أنْ تَصْنَعَ لَهُ فَطيرَةً لكِنَّهُ هَزَّ رَأسَهُ رافِضاً،ثـُمَّ قَبَّلَ يَدَها وَخَرَجَ.
في المُخَيَّمِ طَريقٌ ضَيِّقٌ امْتَلأ بالأطْفالِ الذينَ تَبْدوعَلى وُجوهِهِمُ البَهْجَةُ،كانَ الأطْفالُ يَقِفونَ تارَّةً،وَيَرْكُضونَ تارَّةً أخْرى،كانوا جَميعُهُمْ أصْدِقاءً،لكنَّ مُحَمَّداً لا صَديقَ لَه.ُ.في الواقِعِ قَبْلَ سَنَتَيْنِ كانَ لَهُ صَديقٌ يُحِبُّهُ كَثيراً اسْمُهُ ابْراهيم،أصابَهُ مَرَضٌ شَديدٌ وَلَمْ يَسْتَطِعْ والِدُ ابْراهيمَ تَوفيرَ الدَّواءَ اللازِمَ،إنَّ مَرَضَ ابْراهيم لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلاجٌ داخِلَ المُخَيَّمِ،وَما خارِجَ المُخَيَّمِ تَعْجَزُ اليَدُ الفَقيرَةُ عَنْ الوصولِ إليْهِ.لا يَزالُ مُحَمَّدٌ يَتَذَكَّرُ ابْراهيمَ الصَّغيرَ جَيِّداً،كانَ لإبْراهيمَ حُلْمٌ وَحيدٌ هُوَ أنْ يَعودَ إلى عَكَّا،أمَّا مُحَمَّدٌ فَحُلْمُهُ أنْ يَعودَ إلى صَفَد،وَكَمْ كانا يَبْكِيانِ لأنَّ صَفَد تَبْعُدُ عَنْ عَكَّا،وَتواعدا ذاتَ يَوْمٍ-إن عادا للوطن-أنْ يَزورا بَعْضَهُما في الأعْيادِ وَالمواسِمِ.لَمْ يَعِشْ ابْراهيمُ لِيُحَقِّقَ حُلْمَهُ،لكنَّ مُحَمَّداً قَطَعَ عَلى نَفْسِهِ عَهْداً،أنَّهُ إذا عادَ لِفِلَسْطينَ سَيَزورُعَكَّا حَتْماً.
لَمْ يَسْتَطِعْ مُحَمَّدٌ بَعْدَها أنْ يَجِدَ صَديقاً مِثْلَ ابْراهيم،وَاكْتَفى بِمُصاحَبَةِ الكُتُبِ وَالعصافيرِ وَالحَمامِ.وَمَع هذا كانَ مُحَمَّدٌ يُحِبُّ أطْفالَ المُخَيَّمِ كَثيراً وَيُساعِدُهُمْ في المُذاكَرَةِ،وَكانَ مُسْتَعِدّاً أيْضاً لأنْ يُعيرَهُمْ كِتابَهُ الوَحيدَ لَوْ أنَّهُمْ طَلَبوا مِنْهُ ذلِكَ.إنَّ ما يَجْمَعُهُ بِهِمْ كَبيرٌ جَدّاً،فَهُمْ فِلِسْطينيّونَ مِثْلَهُ،بَلْ إنَّهُ لا يَعْرِفُ فِلَسْطينيِّينَ غَيْرَهُمْ،هُمْ أهْلُهُ وَجيرانُهُ،وَرَغْمَ اخْتلافاتِهِمُ الصَّغيرَةِ فَإنَّ حُلْمَهُمُ الكَبيرَبِأنْ يَعودوا لِلوَطَنِ يَجْمَعُهُمْ،وَهذا الحُلْمُ في الحَقيقَةِ لَنْ يَتَحَقَّقَ إلا إذا اجْتَمَعوا مَعاً عَلى تَحْقيقِهِ.
عِنْدَما وَصَلَ مُحَمَّدٌ مَدْرَسَتَهُ،جَلَسَ عَلى حَجَرٍفي السّاحَةِ،مُنْتَظِراً أنْ يَدُقَّ الجَرَسُ،وَما يَحْدُثُ بَعْدَ أنْ يَرُنَّ الجَرَسُ فَهُوَ مَشْهَدٌ يَتَكَرَّرُ في بِدايَةِ كُلِّ سَنَةٍ دِراسِيَّةٍ:أولاً يَصْطَفُّ الطُّلابُ وَيَقْرأونَ الفاتِحَةَ وَيُنْشِدونَ النَّشيدَ الوَطَنِيَّ،يَتْلو المُديرُ تَعْليماتِهِ وَتَحْذيراتِهِ،ثُمَّ يُقَسِّمُ المُعَلِّمونَ الطُّلابَ وَبَعْدَها يَدْخُلُ الطُّلابُ صُفوفَهُم.
اخْتارَ مُحَمَّدٌ الجُلوسَ في مَقْعَدٍ أخيرٍ قُرْبَ النّافِذَةِ،كانَ باستِطاعَتِهِ أنْ يَرى مِنْ خِلالِها المُخَيَّمَ وَالنّاسَ وَالعَصافيرَ في السّماءِ،لَكَمْ تَمَنّى أنْ يَكونَ مِثْلَ هذه العصافيرِ حُرّاً طَليقاً.
كانَ اليَوْمُ الدِّراسِيُّ عادِياً جِدّاً بالنّسْبَةِ لِمُحَمَّدٍ،باسْتِثْناءِ حِصَّةٍ واحِدَةٍ،هِيَ حِصَّةُ الجَغْرافيا،وهذه هِيَ السّنَةُ الأولى التي سَيَدْرُسونَ فيها الجَغرافيا.الطُّلابُ الأكْبَرُ سِنّاً يَقولونَ إنَّ أسْتاذَ الجَغرافيا لَيْسَ مِنْ أبْناءِ المُخَيَّمِ وَيأتي كُلَّ يَوْمٍ مِنَ المَدينَةِ،وَهُوَقاسٍ جِدّاً..َلا يُحِبُّ الأطْفالَ أبَداً ويَغْضَبُ لأتْفَهِ الأسْبابِ.وَعِنْدَما دَخَلَ أسْتاذُ الجَغرافيا الصَّفَّ الخامِسَ،لَمْ يَبْتَسِمْ وَلَمْ يَقُلْ سِوى بِضْعِ كَلِماتٍ يَشْرَحُ فيها اسْلوبَهُ التَّدْريسيَّ وَيُخَوِّفُ طُلابَهُ..لَمْ يَسْمَعْ مُحَمَّدٌ ما قالَهُ اسْتاذُهُ تَماماً لأنَّهُ كانَ سارِحاً بِنَظَرِهِ خارِجَ النّافِذَةِ؛كانَ يَنْظُرُ للعصافيرِ،وَيَتَخَيَّلُ أنَّهُ عُصْفورٌ يَطيرُ مَعَهُمْ بَعيداً عَنِ الفَقْرِ وَالحُزْنِ،وَقريباً مِنْ فِلَسْطينَ.تَخَيَّلَ مُحَمَّدٌ نَفْسَهُ وَهُوَ يَطيرُ فَوْقَ فِلَسْطينَ،وَيَمُرُّ مِنْ وِدْيانِها وَيَحُطُّ عَلى أشْجارِها،"لا شَكَّ أنَّهُ لَيْسَ هُناكَ ثَمَّةَ شَيْءٍ في الدُّنْيا يَسْتَطيعُ أنْ يَمْنَعَ العصافيرَ مِنْ أنْ تُحَلِّقَ في فِلَسْطينَ.."لَوْ كُنْتُ عُصْفوراً لَما مَنَعَني شَيْءٌ مِنْ زِيارَةِ صَفَد وَعَكّا" فَكَّرَ مُحَمَّدٌ.
كانَ مُحَمَّدٌ يَتَخَيَّلُ،وَلَمْ يُلاحِظْ أنَّ أسْتاذَ الجَغرافيا قَدْ بَدَأ شَرْحَ دَرْسٍ جَديدٍ.أمّا الأسْتاذُ فَقَدْ لاحَظَ أنَّ مُحَمَّداً لَمْ يَكُنْ مُنْتَبِهاً وَأنَّهُ كانَ يَنْظُرُ عَبْرَ النّافِذَةِ،فَصاحَ قائِلاً:"يا فَتى،أنْتَ الذي تَنْظُرُ عَبْرَ النّافِذَةِ،قِفْ".
أفاقَ مُحَمَّدٌ مِنْ حُلْمِهِ مَذْهولاً وَنَظَرَ تِجاهَ اللوْحِ،فَقالَ الأسْتاذ:نَعَمْ،أنْتَ قِفْ وَقُلْ لي ما اسْمُكَ؟،فَوَقَفَ مُحَمَّدٌ عَلى الفوْرِ وَقال:"اسْمي مُحَمَّدٌ".
-الأسْتاذُ:"أيْنَ كُنْتَ يا محمد؟"
لَمْ يُجِبْ مُحَمَّدٌ وَطَأطَأ رَأسَهُ،سَيَضْحَكُ أسْتاذُهُ وَالأطْفالُ الآخَرونَ إنْ قالَ لَهُمْ أنَّهُ وَصَلَ لِصَفَد،سَيَضْحَكونَ إذا عَلِموا أنَّه تَخَيَّلَ نَفْسَهُ عُصْفوراً حُرّاً،إنَّهُمْ رُبَّما لَنْ يَسْتَطيعوا أنْ يَفْهَموا مَعْنى أنْ تَكونَ حُرّاً كالعُصْفورِ.
كانَ أسْتاذُهُ غاضِباً،وَمُحَمَّدٌ رَأى ذلِكَ في عَيْنيْهِ وَانْتَظَرَ أنْ يوقِعَ أسْتاذُهُ بِهِ عُقوبَةً..وقرر أنه سيتحمل نتيجة أفعاله بشجاعة.لكِنَّ أسْتاذُهُ لَمْ يَشَأ أنْ يُعاقِبَهُ،وَقال:"إنَّها بدايةُ سَنَةٍ دِراسِيَّةٍ جَديدَةٍ،لَنْ أعاقِبَكَ اليَوْمَ،مَعَ أنَّني عادةً أعاقِبُ طُلابي بِشِدَّةٍ.لكِنْ سَأطْلُبُ مِنْكَ في المُقابِلِ أنْ تَقومَ بِشَيْءٍ ما..مِنْ أيْنَ أنْتَ يا مُحَمَّدٌ؟"،أجابَهُ مُحَمَّدٌ:"أنا مِنْ صَفَد"،هَزَّ الأسْتاذُ رَأسَهُ،ثُمَّ عَلَّقَ عَلى الحائِطِ لَوْحَةً كَبيرَةً مَكتوبٌ عَليْها"خارِطَةُ فِلَسْطينَ التّاريخِيَّةِ".نَظَرَ إليْها الطُّلابُ بِدَهْشَةٍ،لَمْ يَرَ أحَدٌ مِنْهُمُ خارِطَةَ فِلَسْطينَ مِنْ قَبْلٍ،بَلْ إنَّهُمُ حَتّى لا يَعْرِفونَ مَعْنى خارِطة!.أمَّا الأسْتاذُ فخاطَبَ مُحَمَّداً قائِلاً:"هذِهِ خارِطَةُ فِلَسْطينَ يا مُحَمَّدٌ،وَلأنَّني لَنْ أعاقِبَكَ اليَوْمَ سَتَأتي وَتُرِيَني أيْنَ تَقَعُ صَفَدُ عَلى خارِطَةِ فِلَسْطينَ،هَيََّا تَعالَ وَأرِنا يا مُحَمَّدٌ".
كانَتْ هذِهِ المَرَّةَ الأولى التي يَرى فيها مُحَمَّدٌ خارِطَةَ فِلَسْطينَ،وَهُوَ لا يَعْرِفُ أيْنَ تَقَعُ صَفَدُ عَلى الخارِطَةِ!،شَعَرَ بِالألَمِ وَالخَجَلِ،إنَّهُ لا يَعْرِفُ أيْنَ صَفَدُ عَلى الخارِطَةِ،إنَّها مَوْجودَةٌ بِالتّأكيدِ لكِنَّه لا يَعْرِفُ أيْن..أيْن؟.
بَعْدَ لَحَظاتِ صَمْتٍ سادَتْ في الصَّفِّ،قالَ الأسْتاذُ:"إذنْ مُحَمَّدٌ لا يَعْرِفُ أيْنَ تَقَعُ صَفَدٌ،لا يَعْرِفُ أيْنَ وَطَنُهُ،أليْسَ مِنَ العَيْبِ ألا يَعْرِفُ أحَدُهُمْ أيْنَ وَطَنُهُ؟.اجْلِسْ يا مُحَمَّدٌ،اعْتَقِدُ أنَّكَ لَنْ تَسْرَحَ في النّافِذَةِ مُطْلَقاً بَعْدَ اليَوْمِ،وَفي الغَدِ سَأسْألُكَ السُؤالَ نَفْسَهُ،تَذَكَّرْ ذلِكَ".
كانَ هذا المَوْقِفُ بِالذّاتِ عُقوبَةً بِالنِّسْبَةِ لِمُحَمَّدٍ،بَلْ إنَّه أقْسى العُقوباتِ بِحَقٍ..جَميعُ الأطْفالِ يَتَهامَسون"إنَّهُ لا يَعْرِفُ وَطَنَهُ،مُحَمَّدُ الشّاطِرُ لا يَعْرِفُ أيْنَ تَقَعُ صَفَدُ".
عِنْدَما عادَ إلى بَيْتِهِ،لَمْ يُكَلِّمْ أحَداً، أغْلَقَ البابَ عَلى غُرْفَتِهِ وَجَلَسَ يَبْكي بِحُرْقَةٍ وَصَمْتٍ،إنَّهُ يَعْرِفُ صَفَدَ أكْثَرَ مِنْ الأسْتاذِ نَفْسِه،إنَّهُ يَراها كُلَّ يَوْمٍ في أحْلامِهِ،رُبَّما الأسْتاذُ لا يَعْرِفُ مَعْنى الحُلْم،وَمَعْنى أنْ تَتَخَيَّلَ أنَّكَ عُصْفورٌ،وَلا يَعْرِفُ مَعْنى الشَّقاءِ وَالألَمِ،إنَّ الأسْتاذَ لَمْ يَعِشْ في المُخَيِّمِ وَيَأتي مِنْ مَدينَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ أنيقَ الثـِّيابِ مُرَتَّبَ المَظْهَرِ..لِكَيْ تَعْرِفَ صَفَد يَجِبُ أنْ تَكونَ لاجِئاً،يَجِبُ أنْ تَعيشَ في المُخَيَّمِ،يَجِبُ أنْ تَكونَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ...كانَتْ الأفْكارُ تَتَوالى في رَأسِ مُحَمَّدٍ وتَعْصِفُ بِذِهْنِهِ،لكِنَّهُ هَدَأ بَعْدَ فَتْرَةٍ،وَقَرَّرَ أنْ يَحْفَظَ الخارِطَةَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ،لِكَيْ يُثْبِتَ لِلْجَميعِ أنَّهُ يَعْرِفُ وَطَنَهُ.
في المَساءِ دَخَلَ أبوهُ غُرْفَتَهُ وَجَلَسَ قُرْبَهُ وَسَألَهُ"لِماذا كُنْتَ تَبْكي يا بُنَيّ؟"،فَحَكى لَهُ مُحَمَّدٌ كُلَّ ما حَدَثَ في حِصَّةِ الجَغرافيا..فَكَّرَ أبوه قَليلاً ثُمَّ قال:"يا بُنَيّ أنا أيْضاً لا أعْرِفُ أيْنَ تَقَعُ صَفَدُ عَلى خارِطَةِ فِلَسْطينَ،لكِنّي أعْرِفُ صَفَدَ أكْثَرَ مِنْ أيِّ شَخْصٍ آخَرٍ،أعْرِفُ وِدْيانَها وَأشْجارَها وَبَساتينِها،أتَذَكَّرُ سُكّانَها،أتَذَكَّرُبُيوتَها التي كانَتْ مُشَيَّدَةً فيها بَيْتاً بَيْتاً،أتَذَكَّرُ مِئْذَنَةَ الجامِعِ وَصَوْتَ المُؤَذِّنِ.هُناكَ أشْياءُ لا يُدْرِكُها سُكّانُ المَدينَةِ لأنَّهُمْ لَمْ يَفْقِدوا مَدينَتَهُمْ،رُبَّما يَجِبُ عَلَيْكَ أنْ تَعْرِفَ أيْنَ تَقَعُ صَفَدُ عَلى خارِطَةِ فِلَسْطينَ،ولكِنْ عَدَمُ مَعْرِفَتِكَ ذلِكَ لا يَعْني أنَّكَ لا تَعْرِفُ وَطَنَكَ،ما دامَ وَطَنُكَ في قَلْبِكَ فَأنْتَ تَعْرِفُ وَطَنَكَ،لا تَحْزَنْ يا بُنَيّ،وَلا تَسْتَسْلِمْ،وَأنا أعْرِفُ أنَّكَ في الغَدِ سَوْفَ تُجيبُ إجابةً صَحيحةً وَتَعْرِفُ أيْن تَقَعُ صَفَدُ،ألَيْسَ كذلِكَ؟".هَزَّ مُحَمَّدٌ رَأسَهُ مُوافِقاً..قامَ والِدُهُ..َوَقَفَ عِنْدَ البابِ،ثُمَّ نَظَرَ إلى مُحَمَّدٍ وَقالَ"العصافيرُ أيْضاً لا تَعْرِفُ الخارِطَةَ،لكِنَّها دائِماً تَهْتَدي إلى أوْطانِها..نَمْ مُطْمَئِنّاً يا بُنَيّ،إنَّ الغَدَ يَومٌ آخَرٌ،احْرِصْ عَلَى أنْ يَكونَ أفْضَلَ مِنْ هذا اليَوْمِ"ثُمَّ خَرَجَ وَأغْلَقَ البابَ.
في اليَوْمِ التّالي،دَخَلَ الأسْتاذُ الصَّفَّ،وَعَلَّقَ خارِطَةَ فِلَسْطينَ..نَظَرَ إليْها مُحَمَّدٌ،كانَ مُطْمَئِنّاً وَهادِئاً،إنَّه يَعْرِفُ وَطَنَهُ وَيُحِبُّهُ بِشِدّة،وَيَعْرِفُ أنَّ لِلوَطَنِ أشْياءَ أبْعَدَ وَأعْمَقَ مِنَ الخارِطَةِ..لا يَسْتَطيعُ أحَدٌ أنْ يَرى أشْجارَ صَفَدَ وَعَصافيرَها عَلى الخارِطَةِ..وَلا أنْ يَعْرِفَ وِدْيانَها وَسُكّانَها..وَمَع هذا شَعَرَ مُحَمَّدٌ أنَّهُ أحَبَّ الخارِطَةَ-فَجْأةً-فَهي في النِّهايَةِ خارِطَةُ فِلَسْطين،ومُحَمَّدٌ يَعْشَقُ كُلَّ ما يَتَعَلَّقُ بِفِلَسْطين..نَظَرَ الأسْتاذُ إلى مُحَمَّدٍ وَقالَ:"أيْنَ تَقَعُ صَفَدُ يا مُحَمَّدٌ؟"..شَعَرَ مُحَمَّدٌ أنَّ قَلْبَهُ يَنْبِضُ أسْرَعَ مِنْ ذي قَبْل،إنَّ صَفَدَ قَريبةٌ..قَريبةٌ جِدّاً مِنْهُ..إنَّ صَفَدَ في قَلْبِهِ قَبْلَ أنْ تَكونَ في أيِّ مَكانٍ آخَرٍ...رَفَعَ مُحَمَّدٌ رَأسَهُ وَأجابَ عَلى سُؤالِ الأسْتاذِ:"في قَلْبي يا أسْتاذُ.."سَكَتَ قَليلاً،ثُمَّ تابَعَ:"وَفي شَمالِ فِلَسْطينَ أيْضاً"..وَأشارَ إليْها على الخارِطَةِ.

أناستاسيا قرواني

الخميس، 19 مايو 2011

النجاة في طاعة الله عز وجلّ


قال الله تعالى في سورة القصص :

وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (القصص،الآية 7)

جاء في تفسير الشوكاني لهذه الآية   (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ )   أي : ألهمناها وقذفنا في قلبها وليس ذلك هو الوحي الذي يوحى إلى الرسل ، وقيل : كان ذلك رؤيا في منامها ، وقيل : كان ذلك بملك أرسله الله يعلمها بذلك .
 
وقد أجمع العلماء على أنها لم تكن نبية ، وإنما كان إرسال الملك إليها عند من قال به على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما ،   (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ )   فإذا خفت عليه من فرعون بأن يبلغ خبره إليه فألقيه في اليم وهو نهر النيل ، ولا تخافي ولا تحزني أي : لا تخافي عليه الغرق أو الضياع ، ولا تحزني لفراقه إنا رادوه إليك عن قريب على وجه تكون به نجاته وجاعلوه من المرسلين الذين نرسلهم إلى العباد .
والملفت للنظر في هذه الآية أن الله تبارك وتعالى يوحي إلى أمّ موسى ويأمرها بأنها إذا خافت على ابنها وفلذة كبدها من فرعون أن تلقيه في النيل العظيم الذي ركوبه في الأصل يثير الرعب والخوف في النفس، ويطمئنها ربنا تبارك وتعالى بأنه عز وجلّ سيرده إليها ويجعله رسولا لكي تزداد طمأنينة وقد كان .وهذا درس لكل المؤمنين عبر التاريخ والأزمان أن النجاة والطمأنينة تكمن في طاعة الله عز وجلّ حتى لو كان في ظاهرها الخوف والخطر.    

الاثنين، 14 فبراير 2011

كان الماضي حقّاً أجمل !!



كانوا أشخاصاً طيبين، يعيشون مع بعضهم، في سهراتهم الطويلة يتحدثون كثيراً عن أمور كثيرة، عن الوطن الممزق عن الظلم، يروون قصصاً كثيرة الإنسان فيها أكثر إشراقاً ومحبة. يقولون أن الناس "زمان" كانوا أكثر صدقا وطيبة، أن الحياة كانَ لها شكلاً أعمق، والمعاني كانت تفيض من كل شيء. كل شيء له معنى، الأمور التي نراها بسيطة الآن كانت قيّمة.. يتحدثون عن كل الأمور التي لم تعد موجودة. المحبة والأحاسيس النبيلة، الخير الكثير وراحة البال والأمان.. كل هذه الأشياء لم تعد موجودة – كما يقولون بالطبع. فهم عارفون بأمور الماضي كلها، الماضي كان أفضل بلا شك.. كيف وصلنا إلى هنا إذن؟.. سألت ذات مرة أحدهم. إن كان ماضيكم جيداً وكنتم أناساً جيدين، وكل هذا السوء لم يكنْ موجوداً – بعد- فكيف أنجب هذا الماضي الجيد واقعاً مظلماً؟ لقد كان سؤالا محرماً، بعض الماضي يكاد يكون مقدساً إلى درجة أصبح من غير الممكن أن نسأل عنه، كان علي تقبل الأشياء كما هي دون أن أسأل.. فلسبب ما أنجب الماضي الطاهر واقع الخطيئة، ربما السبب أبناء هذا الجيل الخاطئين، ربما هذا التفسير أسهل من السؤال نفسهِ علينا، ولا بأس أن لا نفهم أي شيء.. الأشخاص الطيبون الذين لم يفقدوا الإيمان بالعادات القديمة، يعرفون كل القصص الجميلة التي لم تعد تحدث، وبعض القصص الأخرى التي يصعب أن تحدث حتى في أحلامنا، لكنهم يؤكدون أنها حدثت، كما حدث في تلك القصة التي سأرويها عنهم :
يقولون أنه مرّت أيام قحط شديدة القسوة والجفاف، ماتت أغلب الماشية وجفّ الزرع ونتن الهواء.. انتشرت الأمراض الغريبة، حصدت أرواح الكثيرين، كانوا يصلون نهارَ مساء، للإله ِ العظيم أن يرفع عنهم هذا البلاء الشديد.. وبينما هم يصلون في مصلاهم، إذ جاء عليهم طفل يصرخ: مطر.. مطر، المطر رح يجي لعنا .. خرج الأهالي جميعاً مهللين.. ينظرون إلى السماء الغائمة، يشتمون أنفاس الريح الباردة النقية، كادوا ينسون طعم الّريح القادم من الغرب بنكهته البحرية ويتلذذون بأولى حبات المطر تسقط هادئة وناعمة. وبينما هم كذلك، أبصروا رجلاً قادماً من بعيد، يرتدي لباساً أبيضاً.. فاستغربوا شأنه وعلى عادتهم الطيبة ركضوا نحوه مستقبلين. استضاف أهل القرية هذا الرجل في مضافة القرية، وحدثوه عن محنتهم وشدة كربتهم، وعن صلاتهم ودعائهم .. وعن هذا اليوم المبشر الذي اجيبت فيه صلواتهم وفتحت السماء صدرها لهم. استمع الرجل بصبر، وهزَ رأسه باهتمام... ثم رفع يده طالبا منهم السكوت، وبدأ بالحديث: اليوم أجيبت صلواتكم من السماء، ولقد أتيتكم منها حاملاً معي المطر والغوث، لأعلن نهاية البلاء، وبداية العصور الخضراء.. فأنا البشير لكم. بهت أهل القرية لكن كبيرهم قام وصاح: يا مرحباً بكَ أيها البشير، بت بيننا عزيزاً ومكرماً..
وأخذت الحكايات تنتشر في القرية، عن الرجل الذي جاء حاملاً المطر وقدم رسولاً بالخير، وعن بركاته وكراماته وعجائبه. وأخذ الناس يتدافعون إلى المضافة، يتمسحون بجسده ولباسه الأبيض ويطلبون الرضا والمغفرة والوساطة عند السماء، والدعاء المستجاب. وقد حاولَ الأهل تقديم القربات والعطايا لهذا الرجل المبارك، لكنه كان يرفض قبولها.. ولم يأخذ حتى الأكل البسيط.
ومكث فيهم أسبوعاً صائماً عابداً.. وفي اليوم الثامن، أرسل إلى الناس خبراً، بأنه تلقى أمراً بالرحيل، وأنه يريد أن يجمعهم لكلمة أخيرة، يودعهم بها. فاجتمع الناس.. وأخذ الرجل بالحديث، فذكرهم بالخير والأخلاق، وأطال بالوعظ.. ودعا لهم ثم سكت. فقام أحد رجال القرية وقال: يا أيها الرجل الذي أتيتنا حاملا المطر، لكنك لم تأخذ شيئاً حتى الأكل، فبقيت صائماً بيننا بعد أن جلبت لنا سبب الحياة وإنا لنخشى أن تذهب هكذا فتعود السماء إلى غضبها.. فوقف الرجل وأدار بنظره على الجالسين، ثم قال: أما العطايا فلم آتي لأجلها، إنما أنا رجل أتيتكم ببشرى، وسأذهب كما أتيت. ولكن إن أردتم أن لا تنساكم السماء مرة أخرى ولا تضل غيماتها عنكم، فأرسلوا معي وثائق ما ملكتم من الأرض والزرع، لأختمها بختم الأولياء الموجود عند الولي الأكبر في مدينة أخرى، على أن أعيدها لكم السنة القادمة في رحلتي المقدسة.
ويومها، تدافع أهل القرية بوثائق أراضيهم يحفظونها مع هذا الرجل المبارك، ومن أقدس سراً من الأولياء الصالحين؟..
لكن القصص التي تبدأ سعيدة لا تنتهي كذلك دائماً، فقد مرّت سنة، واثنتين.. والرجل المبارك لم يعد. ثم في السنة الثالثة هجم على القرية جنود وغرباء ادعوا ملكية الأرض.. وعندما احتج الأهالي، اخرج الغرباء وثائق ملكية تثبت صحة أقوالهم. ولم يستطع أهالي القرية إثبات حقوقهم، وقال بعض الناس دعونا ننتظر السنة القادمة علّه يأتي الرجل الصالح، وطلبوا مهلة عامٍ .. ومرت السنة وتلتها السنة، فقال بعض الناس: نرحلُ نحن ونبحث عن الرجل الصالح ونأخذ وثائقنا، فحزموا أمتعتهم ومضوا.
يقول الناس الطيبون: أنهم أضنوا قلوبهم في الإنتظار، لكن أحداً لم يجيء، لا رجل المطر، ولا أولئك الذين رحلوا في البحث عنه. أما قريتهم فقد هجروا عنها إلى قرية مجاورة، ثم هجروا مجدداً إلى أماكن أخرى.. وهكذا كتبت عليهم الغربة والفقد وتشتتوا.. ومن تبقى منهم لا يزال يدعو باسم الرجل الصالح الذي حمل إليهم المطر.
الآن من سيصدق أن رجلاً ما يحمل على ظهره المطر ويجوب الأرض؟.. ثم مهما كانت رحلته مقدسة، ولو جاب الأرض كلها فلن يستغرق كل هذه السنوات!. هذا يحدث في الماضي فقط.
في طريق المخيم الضيق، وفي يوم ممطر.. ضحكنا كثيراً أنا وأخي على هذه القصة.. على أبطالها الساذجين ورواتها الأكثر سذاجة، وعلى جدتي التي سوف تقاطعنا اربعين يوماً إن هي علمت أننا ضحكنا. كان الطريق ضيقاً واليوم ممطراً... ونحن نضحك على تلك الفكرة التي تبدو ساذجة بأن الأشياء كانت أفضل في السابق، استنتجنا من هذه القصة ومثيلاتها أن الأشياء لم تكن أفضل، لكن الناس كانوا أجهل من أن يدركوا ذلك. كنا ذاهبين لإستلام حصتنا من الطحين .. من إحدى المنظمات الخيرية، كان كيساً صغيراً جدا علينا، ومع ذلك كنا نمشي مسافة طويلة لإستلامه.. كنت أفكر بكل هذا الحديث الذي بدأناه لنضحك.. لكنه أوصل قلبي إلى غصة مكبوتة، من الأفضل أن تظل كذلك.. ولوقت طويل حاولت أن أطرد من بالي سؤالاً ملحاً : ما وجه الشبه بين ذلك الرجل الذي حمل المطر، وهؤلاء الذين يحملون إلينا الطحين؟..لا.. ليس ثمة شبه بين غيمة مطر كثيفة، وكيس الطحين الصغير هذا.
ابتسمت مع داخلي، ربما.. الماضي حقاً أجمل، فالناس لم يكونوا ليصدقوا رجلا يحمل كيس طحين.





الجمعة، 14 يناير 2011

سرابُ الكافرين خيبةٌ مركَّبة


قال الله تعالى ( وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )(إبراهيم 25)
بداية أتناول المثل القرآني من سورة إبراهيم ، في قول الله تعالى : (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) )(إبراهيم18 ).

أي أن الكفار الذين عبدوا غير الله سبحانه وتعالى لا يستفيدون من أعمالهم يوم القيامة، فهي كالرماد الذي نثرته رياح عاصفة لا يمكن جمعه. وهذا هو الخسران المبين لأن أعمالهم مهما كثرت فهي مُحبطةٌ بسبب كفرهم بالله الواحد الأحد.فأعمال الكافرين لا يعتد بها مهما بلغت ولا يكون للكفرة قدرٌ عند الله سبحانه ولا منزلةٌ، يقول الله سبحانه في سورة الكهف: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا *

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة " ، وقال اقرءوا إن شئتم : (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) .
وقال أبو سعيد الخدري : يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لم تزن شيئا ، فذلك قوله تعالى (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا )

ويقول الله تبارك وتعالى في سورة النور : وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ *(39)

والمعنى أن الكفار يُعَوّلون على أعمالهم التي يظنونها من الخير ويطمعون في ثوابها ، فإذا قدموا على الله سبحانه لم يجدوا منها شيئا ؛ لأن الكفر أحبطها ومحا أثرها، تماماً مثل الظمآن الذي يحسب السراب في الصحراء ماءً فإذا ما اقترب منه لم يجد شيئا. ثم ذكر سبحانه ما يدل على زيادة حسرة الكفرة ، وأنه لم يكن قصارى أمرهم مجرد الخيبة كصاحب السراب فقال : (وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) أي وجد الله بالمرصاد فوفاه حسابه أي جزاء عمله .

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ *(40)
وضرب الله مثلاً آخراً لأعمال الكفار كما أنها تشبه السراب الموصوف بتلك الصفات ، فهي أيضا تشبه الظلمات، والمعنى : يغشاه موج من بعده موج ، فيكون الموج يتبع بعضه بعضا حتى كأن بعضه فوق بعض ، والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه ، فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه زاد الخوف شدة ؛ لأنها تستر النجوم التي يهتدي بها من في البحر ، ثم إذا أمطرت تلك السحاب وهبت الريح المعتادة في الغالب عند نزول المطر تكاثفت الهموم وترادفت الغموم ، وبلغ الأمر إلى الغاية التي ليس وراءها غاية ، ولهذا قال سبحانه : ( ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) أي هي ظلمات متكاتفة مترادفة ، ففي هذه الجملة بيان لشدة الأمر وتعاظمه .

أسأل الله السلامة والعافية.


السبت، 8 يناير 2011

التاريخ اللولبيّ



عندما يحدث حادث قد تكرر في التاريخ كثيراً ما نسمع مقولة  " التاريخ  يعيد نفسه " وليس هنالك ما يدعو للعجب في هذه المقولة إنما تذكرت في إحدى محاضرات الفلسفة ما قالته الدكتورة يومها" أن التاريخ يعيد نفسه ولكن بشكل لولبي "وأعجبتني هذه العبارة ، فقد فهمتها أنا كالتالي: أن الأحداث قد تتكرر عبر التاريخ البشري في صورتها العامة وليس حرفاً بحرف، ولكن تتغير الظروف والشخوص والأزمان والأماكن والوسائل. واليوم قرأت صباحاً سورة الأعراف وعندما تلوتُ الآية ( 137 ) تذكرت هذه العبارة فخطر في بالي أن أكتبها على المدونة، قال الله تعالى :
" وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ".
أي أورث الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل أرض مصر والشام وقيل جميع الأرض جزاءً لهم على صبرهم على العذاب الذي ألحقه بهم فرعون وقومه باستعبادهم وتسخيرهم لخدمتهم، وقتله أبناءَهم ،ودمر الله تبارك وتعالى أبنية وقصور فرعون وقومه.
والذي أريد قوله هنا أن التاريخ أعاد نفسه بشكل لولبي، فاليهود الآن  هم الطغاة والظلمة والمفسدون في الأرض المباركة الذين يقتلون شعباً أعزلاً ويستضعفونه، والمؤمنون الصابرون هم أنفسهم الشعب المستضعف .فسبحان الله تعالى وكأن الزمان استدار وعاد ليكون المؤمنون مستضعفين مرةً أخرى مع تغير الشخوص  والزمان والمكان في المشهد.
بقي أن أنوه للفارق بيننا وبين اليهود في هذا المشهد ، فهم أتقنوا بامتياز دورَ الطغاة  "فرعون وهامان وجنودهما"، أما نحن فلم نتقن إلى الآن جيداً دورَ المؤمنين الصابرين الجديرين بالاستخلاف في الأرض .
ثمّ تأكدت عبارة " أن التاريخ يعيد نفسه ولكن بشكل لولبي "عندما مررت بالآية (169)، قال تعالى :
"فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ".
قال المفسرون هم اليهود ، ورثوا كتاب الله فقرءوه وعلموه ، وخالفوا حكمه وأتوا محارمه مع دراستهم له . فكان هذا توبيخا لهم وتقريعا .
يأخذون عرض هذا الأدنى ثم أخبر عنهم أنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم ونهمهم . ويقولون سيغفر لنا وهم لا يتوبون . ودل على أنهم لا يتوبون قوله تعالى وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه والعرض : متاع الدنيا ; والإشارة في هذه الآية إلى الرشا والمكاسب الخبيثة . ثم ذمهم باغترارهم في قولهم " سيغفر لهم " وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها ، فقطعوا باغترارهم بالمغفرة وهم مصرون ، وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم .
وبالفعل التاريخ يعيد نفسه فقد جاء جيلٌ أو أجيالٌ من المسلمين بدّلوا وأولوا القرآن كما أول اليهود وحرّفوا كتابهم، ونسمع كثيراً قول الذين يقولون أن الله تعالى غفور وتواب رحيم، وهذا  حقّ، ولكن الله تبارك وتعالى غفور وتواب لمن يتوب ويقلع عن المعاصي والذنوب والآثام ويبادر إلى الصالحات من الأعمال فيتوب الله تعالى عليه ويرحمه ويدخله جناته ، أما الذين يصرون على المعاصي والذنوب ولا يقومون بالفرائض التي فرضها الله  فينطبق عليهم قولُ الله تعالى في الآية السابقة  .

الجمعة، 7 يناير 2011

تلاشي



"عندما تثاءب العالم هذا الصباح وفتح فمه الضخم ، فاحت رائحة نتنة من أعماقه وكدت أختنق، لكنّي فتحت نافذتي وقفزت إلى عالم آخر.. سأكون بخير". كان هذا كلّ ما كتبته على ورقة صغيرة، غرفتها لا تزال كما هي.. مرتبة ترتيباً مدروساً ونمطياً. كانت تكره النمط والروتين، لكنها كانت تحب أن تبقى غرفتها مرتبة بنمط معين لا يتقنه أحد سواها، وقد تركت الغرفة على شكلها المعهود منذ أن قفزت إلى عالم آخر من نافذتها التي لا أثر لها الآن، فتركت على الجدار مستطيلا كبيرا غير مدهون، كان يشكل في السابق محلّ النافذة التي اختفت. إنها السنة الثانية تمر اليوم.. وكل شيء لا يزال متروكاً محله، آملاً في أن تعود مع نافذتها .. يوماً ما.
التفاصيل الصغيرة التي لا تكفّ عن الثرثرة بقيت مخلصة لها، ولطابعها المميز في إضفاء صبغة من الحياة على كل شيء. آمنت منذ صغرها بأن كل الأشياء ترى وتحس، كان ذلك يبعث الفكاهة ويجعلها طفلة طريفة.. لكنه فيما بعد أصبح باعثاً لسخرية الغرباء وهاجسًا مقلقاً لمحبيها، كلما تقدمت في العمر. فالأشياء كما نعلم جميعا – ليست كل الأشياء – لا ترى، ولا تحس.
لكن لا أحد كان قادراً على إقناعها بذلك، حاولت أن أسألها مرّة كيف بدأت تحس بأن الأشياء كلها تحيا، ورجوتها أن تتذكر.. فروت لي كيف أنها ذات مرّة حملت سكيناً صغيرة، وبدأت تحفر أحرف اسمها على جذع شجرة مخلوعة، فلاحظت سائلاً يندلق من الشجرة، وعندما سألت جدها عن ذلك قال لها أن الشجرة تبكي لأنها تجرحها بالسكين.. ثم روت لي قصة أخرى عن برتقالتين ملتصقتين إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة، وكيف أن جدتها أخبرتها أن الكبيرة والدة البرتقالة الصغيرة، وعندها رفضت أن تأكل البرتقالة، لا.. بل لم تأكل برتقالاً منذ ذلك الحين.
التفاصيل الصغيرة هي البدايات التي لا نستطيع تحديدها، التفاصيل الصغيرة عندما تتناسج فيما بينها وتشكل الحلقة الأولى التي لا نتوقع عنها شيئاً، ولا نذكر عنها أي شيء.. كيف بدأ كل شيء؟ لا أحد يعلم. حتى هي ربما.. تظن أنها جرحت شجرة، ثم قضت عمرها فيما بعد تعاني من عقدة الذنب. لكنه ليس كذلك، لقد راقبتها منذ نعومة أظفارها، لم تكن سمعت بعد أن الأشجار تبكي، ولم تكن تميز بين البرتقال أو أنواع الفواكه الأخرى، لكنها كانت تحضن كلّ شيء تحبه، وكانت كلما خرجنا في نزهة تعانق جذع الصفصافة الضخمة النابتة عند منعطف الشارع، كان عمرها ثلاث سنوات، وهي لا تذكر عن هذه الحادثة أي شيء.. فأين كانت البداية الحقيقية لتلك الفكرة التي جعلتها تتيقن من أن الأشياء حولنا ليست مجرد جمادات، إنما هي أشياء جميلة ولها روح. حتى المكان نفسه له روح في نظرها، البيوت لها روح، المدن لها أرواحها المميزة، التي تجعلنا نتآلف مع المدن التي تشبهنا دون أن ندرك تماماَ كيف أو لمَ هذه المدن بالذات، وتجعلنا نأنس ببيوت دون سواها ولا نستطيع أن نشرح بالكلمات لم يحدث هذا.. وهل بإمكاننا أن نقتنع بأن للمكان روح؟ بالنسبة لي لم تكن إلا مسألة أذواق ونظرة شخصية في الجمال. أما بالنسبة لها فلم تكن تبحث في الحياة سوى عن الرّوح التي تشعر بها دون أن تحتاج إلى رؤيتها، وكانت دائما تتوفق في إختيارها للأشياء بشكل غريب، وكانت كل ما تختاره يليق بها، كما لو أنه يتفق في اختيارها أيضاً، كما لو أن لهما روح واحدة . من المضحك أنها كانت تختار كتبها بنفس الطريقة، كانت مولعة بالكتب، وولعها كان أكثر من مجرد قراءة، لقد كان علاقة روحية أيضاً.. فعندما تدخل إلى مكتبة، كانت تنظر إلى الكتب ثم بطريقة غريبة تنتقي الكتب عشوائياً، وتخرج سعيدة جداً، وعندما كنت اسألها كيف كانت تنتقي كتبها، كانت تقول لي ببساطة: نحن نختار بعضنا، الكتاب الذي أرتاح له أقرأه. كانت طريقة طفولية في القراءة، لم أعتقد أنها ستفضي إلى معرفة حقيقية، أو ثقافة مدروسة من شأنها أن تبني شخصية قوية ومنطق علمي. لكنها لم تكن تهتم إلا أن تشعر بذلك الإحساس.. وأن يستمر داخلها، ويعيش ذلك الطفل الصغير الذي يرى العالم بعيون أخرى.. ولا يفهم كلمات على شاكلة ثقافة ومعرفة وشخصية قوية، لم يكن هذا كله مألوفاً أو حتى مهماً، العالم ليس لما نعتقد، هذا كلّ ما أرادت مني أن أؤمن به، العالم أوسع من قدرتنا على تعريفه أو ووصفه.. لقد تركنا أنفسنا تنصاع إلى اعتقادات غيرنا، وتخلينا عن قدرتنا الشخصية في فهم الحياة، وحقنا الشخصي في الرؤية، ولم نعد قادرين على أن نحلم.. لذلك نفنى بسرعة، قبل أن تتوقف أجسادنا عن الحركة بعقود، نكون قد توقفنا عن الحياة، وتحولنا إلى روبوتات ليس لها روح مميزة، حتى الأحجار المترامية في الجبال تحمل ذاكرة أقوى منها، وتبقى أكثر إخلاصاً لذاتها، وعندما ندخل إلى بيت نلمس دفء حجارته أو غربتها وبرودتها..كانت تريدني أن لا أكف عن الحلم وأن أبحث عن الرّوح أيضاً لأنها تحب أن تشاركني ذلك الإحساس الحميم في إدراك الفرح أو الحزن، أو التقرب من أعماقنا المخبأة والتي تشبه النجم المفقود، "كوني شمس نفسك"..
والآن وكل شيء مطفأ ومظلم، أعلم أن ما نقبله اليوم كمسلمات وحقائق، كان أحلام من سبقونا في الماضي، وكان خيالاً جميلاً.. لكنه لم يتحقق بتلك الصورة. شيء ما حدث وغير طبيعة الحياة التي لم تعد تتنفس، وتعفنت في جوف هذا العالم.. لكننا لم نلاحظ مطلقاً. لم نلاحظ سوى ملاحظتها الصغيرة، والنافذة التي اختفت فجأة. والتفاصيل الصغيرة التي تركتها، التفاصيل التي قضت عمراً طويلاً في تكوينها، غادرتها فجأة.. ورحلت إلى عالمها اللامرئي، وليس هناك أشد قسوة من أن لا يراك أحد، وأن لا تكون قادراً على رؤية نفسك، وهي بالأخص.. لذلك، أعتقد أن ما حدث هنا شيء رهيب، شيء ما حدث لم يكن من الممكن احتماله، شيء دفعها إلى أن تترك كل أحلامها وتختفي في الرّيح والصمت والظلّ... بلا تفاصيل.

 
Arabization 3alymni-b