"عندما تثاءب العالم هذا الصباح وفتح فمه الضخم ، فاحت رائحة نتنة من أعماقه وكدت أختنق، لكنّي فتحت نافذتي وقفزت إلى عالم آخر.. سأكون بخير". كان هذا كلّ ما كتبته على ورقة صغيرة، غرفتها لا تزال كما هي.. مرتبة ترتيباً مدروساً ونمطياً. كانت تكره النمط والروتين، لكنها كانت تحب أن تبقى غرفتها مرتبة بنمط معين لا يتقنه أحد سواها، وقد تركت الغرفة على شكلها المعهود منذ أن قفزت إلى عالم آخر من نافذتها التي لا أثر لها الآن، فتركت على الجدار مستطيلا كبيرا غير مدهون، كان يشكل في السابق محلّ النافذة التي اختفت. إنها السنة الثانية تمر اليوم.. وكل شيء لا يزال متروكاً محله، آملاً في أن تعود مع نافذتها .. يوماً ما.
التفاصيل الصغيرة التي لا تكفّ عن الثرثرة بقيت مخلصة لها، ولطابعها المميز في إضفاء صبغة من الحياة على كل شيء. آمنت منذ صغرها بأن كل الأشياء ترى وتحس، كان ذلك يبعث الفكاهة ويجعلها طفلة طريفة.. لكنه فيما بعد أصبح باعثاً لسخرية الغرباء وهاجسًا مقلقاً لمحبيها، كلما تقدمت في العمر. فالأشياء كما نعلم جميعا – ليست كل الأشياء – لا ترى، ولا تحس.
لكن لا أحد كان قادراً على إقناعها بذلك، حاولت أن أسألها مرّة كيف بدأت تحس بأن الأشياء كلها تحيا، ورجوتها أن تتذكر.. فروت لي كيف أنها ذات مرّة حملت سكيناً صغيرة، وبدأت تحفر أحرف اسمها على جذع شجرة مخلوعة، فلاحظت سائلاً يندلق من الشجرة، وعندما سألت جدها عن ذلك قال لها أن الشجرة تبكي لأنها تجرحها بالسكين.. ثم روت لي قصة أخرى عن برتقالتين ملتصقتين إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة، وكيف أن جدتها أخبرتها أن الكبيرة والدة البرتقالة الصغيرة، وعندها رفضت أن تأكل البرتقالة، لا.. بل لم تأكل برتقالاً منذ ذلك الحين.
التفاصيل الصغيرة هي البدايات التي لا نستطيع تحديدها، التفاصيل الصغيرة عندما تتناسج فيما بينها وتشكل الحلقة الأولى التي لا نتوقع عنها شيئاً، ولا نذكر عنها أي شيء.. كيف بدأ كل شيء؟ لا أحد يعلم. حتى هي ربما.. تظن أنها جرحت شجرة، ثم قضت عمرها فيما بعد تعاني من عقدة الذنب. لكنه ليس كذلك، لقد راقبتها منذ نعومة أظفارها، لم تكن سمعت بعد أن الأشجار تبكي، ولم تكن تميز بين البرتقال أو أنواع الفواكه الأخرى، لكنها كانت تحضن كلّ شيء تحبه، وكانت كلما خرجنا في نزهة تعانق جذع الصفصافة الضخمة النابتة عند منعطف الشارع، كان عمرها ثلاث سنوات، وهي لا تذكر عن هذه الحادثة أي شيء.. فأين كانت البداية الحقيقية لتلك الفكرة التي جعلتها تتيقن من أن الأشياء حولنا ليست مجرد جمادات، إنما هي أشياء جميلة ولها روح. حتى المكان نفسه له روح في نظرها، البيوت لها روح، المدن لها أرواحها المميزة، التي تجعلنا نتآلف مع المدن التي تشبهنا دون أن ندرك تماماَ كيف أو لمَ هذه المدن بالذات، وتجعلنا نأنس ببيوت دون سواها ولا نستطيع أن نشرح بالكلمات لم يحدث هذا.. وهل بإمكاننا أن نقتنع بأن للمكان روح؟ بالنسبة لي لم تكن إلا مسألة أذواق ونظرة شخصية في الجمال. أما بالنسبة لها فلم تكن تبحث في الحياة سوى عن الرّوح التي تشعر بها دون أن تحتاج إلى رؤيتها، وكانت دائما تتوفق في إختيارها للأشياء بشكل غريب، وكانت كل ما تختاره يليق بها، كما لو أنه يتفق في اختيارها أيضاً، كما لو أن لهما روح واحدة . من المضحك أنها كانت تختار كتبها بنفس الطريقة، كانت مولعة بالكتب، وولعها كان أكثر من مجرد قراءة، لقد كان علاقة روحية أيضاً.. فعندما تدخل إلى مكتبة، كانت تنظر إلى الكتب ثم بطريقة غريبة تنتقي الكتب عشوائياً، وتخرج سعيدة جداً، وعندما كنت اسألها كيف كانت تنتقي كتبها، كانت تقول لي ببساطة: نحن نختار بعضنا، الكتاب الذي أرتاح له أقرأه. كانت طريقة طفولية في القراءة، لم أعتقد أنها ستفضي إلى معرفة حقيقية، أو ثقافة مدروسة من شأنها أن تبني شخصية قوية ومنطق علمي. لكنها لم تكن تهتم إلا أن تشعر بذلك الإحساس.. وأن يستمر داخلها، ويعيش ذلك الطفل الصغير الذي يرى العالم بعيون أخرى.. ولا يفهم كلمات على شاكلة ثقافة ومعرفة وشخصية قوية، لم يكن هذا كله مألوفاً أو حتى مهماً، العالم ليس لما نعتقد، هذا كلّ ما أرادت مني أن أؤمن به، العالم أوسع من قدرتنا على تعريفه أو ووصفه.. لقد تركنا أنفسنا تنصاع إلى اعتقادات غيرنا، وتخلينا عن قدرتنا الشخصية في فهم الحياة، وحقنا الشخصي في الرؤية، ولم نعد قادرين على أن نحلم.. لذلك نفنى بسرعة، قبل أن تتوقف أجسادنا عن الحركة بعقود، نكون قد توقفنا عن الحياة، وتحولنا إلى روبوتات ليس لها روح مميزة، حتى الأحجار المترامية في الجبال تحمل ذاكرة أقوى منها، وتبقى أكثر إخلاصاً لذاتها، وعندما ندخل إلى بيت نلمس دفء حجارته أو غربتها وبرودتها..كانت تريدني أن لا أكف عن الحلم وأن أبحث عن الرّوح أيضاً لأنها تحب أن تشاركني ذلك الإحساس الحميم في إدراك الفرح أو الحزن، أو التقرب من أعماقنا المخبأة والتي تشبه النجم المفقود، "كوني شمس نفسك"..
والآن وكل شيء مطفأ ومظلم، أعلم أن ما نقبله اليوم كمسلمات وحقائق، كان أحلام من سبقونا في الماضي، وكان خيالاً جميلاً.. لكنه لم يتحقق بتلك الصورة. شيء ما حدث وغير طبيعة الحياة التي لم تعد تتنفس، وتعفنت في جوف هذا العالم.. لكننا لم نلاحظ مطلقاً. لم نلاحظ سوى ملاحظتها الصغيرة، والنافذة التي اختفت فجأة. والتفاصيل الصغيرة التي تركتها، التفاصيل التي قضت عمراً طويلاً في تكوينها، غادرتها فجأة.. ورحلت إلى عالمها اللامرئي، وليس هناك أشد قسوة من أن لا يراك أحد، وأن لا تكون قادراً على رؤية نفسك، وهي بالأخص.. لذلك، أعتقد أن ما حدث هنا شيء رهيب، شيء ما حدث لم يكن من الممكن احتماله، شيء دفعها إلى أن تترك كل أحلامها وتختفي في الرّيح والصمت والظلّ... بلا تفاصيل.