" كان نهاراً مطفأً في قلبي ، أنفاس قلبي مهترئة وثقيلة ، دمي الجاري في عروقي منهك لا يمنح جلدي لونا طبيعيا ً . كنت غريبا ً ، المكان يلفظُني بقسوة ، ويتبرأ مني . لم يعد لك شيء هنا" . هكذا اعتاد أن يشعر .
لم يمض سوى ثلاثة أيام على خروجه ِ من مركز التأهيل ، هناك حيث كانوا يغسلون دمه ويطهرونه من رجسه القديم . لا يتذكر أشياءَ كثيرة حدثت خلال آخر سنوات قضاها ، معظمها في أزقة مظلمة ، وغرف مقيتة ، مع أناس ٍ كثيرين لا يجمعهم سوى إدمانهم . كان يحاول أن يتذكر أول لحظة حدث فيها ذلك . أول لحظة حلق فيها في فلك الوهم . لم يبد ُ الأمر بالغ الخطورة حينها ، كانت لحظة نزع فيها إلى التهور ، وشعر بجرأة وقوة تملآن جسده عندما تناول جرعته الأولى ، لقد تعدّى خطا ً أحمر َ، وتفوق على جبنه من القوانين والمحرمات ، وكان ذلك صاخبا ً ومثيرا ً .
لم يشعر أنّه غطس في وحلٍ عفن ، ولم يدرك أنه غارق إلا في لحظة متأخرة ، تلك التي تشعر فيها باقتراب الموْت . وتصبح كل دروب العودة موصودة بأبواب ضخمة . " لقد أفسدناه يا حسين .. أفسدنا ولدنا بالدلع " ، كانت والدته تردد وتبكي في المستشفى . كان يصحو على صوتها ، قليلا ً . ثم يعود ويغفو بثقل . أحلامه مليئة بصيحات وعويل وروائح قذرة ، أزقة مخيفة ، ووجوه مرعبة ، عيون ناتئة تحدق به من كل صوب . وفي أحد الزوايا النتنة ، يجد حقنة مليئة بسائل الوهم والخداع ، تلمع وتبرق ، تناديه .. تجذبه ُ ... ثم تخترق قلبه حتى آخره وتبث سمها المؤلم . " لقد تمكنت منّي هذه الحقنة حتى الأبد " .
لم يعد يعرف من هو ، لم يعد يشعر بالحياة حوله ، كان ينفصل تدريجيا ً عن هذا العالم . كان يموت من الداخل ، كل شيء جميل وحيّ وشاب ، بدأ بالتعفن والتشوه . لم يكن يفكر سوى بجرعة الغد ، تلك التي تنسيه كل شيء وتحمله إلى طبقات بعيدة ، خارجة عن نطاق جاذبية الأرض. ينتشي للحظات ، ثم يغيب . وعندما يصحو ، يهوي سريعا ً ، نحو حفرة بلا قاع ، وبداخله وحش مسعور من الألم، يمزق كل شيء .
يهرع ُ كالمجنون إلى بيت صديقه ِ "أبو الخير" كما كان يدعوه المدمنون ، لم يكن يبخل على أحد بالجرعات الخيرية ، التي يوزعها على الشباب البائس . " أغثني وحياتك ، سوف أموت " . فيبتسم صديقه " اهدأ يا رجل .. عندي ما تطلب " . فيهديه جرعة ببلاش . ليغيب مرة أخرى ، ويرتاح حتى حين .
كيف وصل إلى هناك ؟ . لم يكن ينقصه شيء في حياته ، لقد عاش حياة كريمة ، وتمتع بنعم ٍ كثيرة منذ صغره . أجل .. لقد كان طفلاً محظوظاً ، تلقى أفضل تعليم .. وحاز على ما يتمناه كل طفل في حياته . لم يكن محروما ً ، أو حزينا ً ، لم يكن معذباً ... كان محاطا ً بالأشياء الثمينة ، والكثيرة . محاطا ً بالحفلات والأعياد والأصدقاء . وبالأهل الطيبين ، الذين سهروا لأجله . كيف اختفى كل ذلك فجأة من حياته ، ولم يعد يشعر سوى بالحقد والكره والغربة ، وبلعنة تسري في جسده ... ؟
لم يعد له أصدقاء ، تخلى عنه الجميع ... ولم يعد بإمكانه أن يلجأ إلى أحد سوى " أبو الخير " ، الذي يستقبله برحابة وبشاشة ، " أنا أفهمك يا رجل ، أنا أعرف ما تشعر به ، لا أحد يهتم بك ، لا أحد يدرك ما يعتريك ، لكن أنا عندي راحة البال ... خذ هذه الحقنة هدية مني ، صغيرة لا تخيف ، تنسى وتهدأ " . وكانت الهدايا تكثر وتكبر يوما ً بعد يوم ... ويزداد تأثيرها وسحرها ، كانت تفعل أشياء عجيبة ، تأخذه بعيدا ً وعاليا ً، هناك حيث تفقد الأشياء قيمتها .
تغيرت ملامح جسده وتصرفاته ، أصبح شخصا ً مختلفاً ، كريها ومرعبا ً . أوعيته الدموية نافرة تحت جلده الأصفر ، عيناه جاحظتان يملؤهما الدم . والدته تردد " أنت لا تأكل كثيرا ً يا ولدي .. انظر ما حل بك ، كل ْ .. كلْ أكثر " . والده لا يكترث كثيرا ً بحالته الصحية ، يقول لوالدته " ابنك هذا يتعاطى شيئاً " ، ثم يدخل وينام .
أما هو ... فلم يعد يعي ما يقال أو يحدث ، ولم تكن له سوى وجهة واحدة ، " أبو الخير" ...
" أنت يا أبو الخير، أنت منقذي وصديقي ، لم يساعدني أحد بقدرك ، لم يهتم بي أحد مثلك من قبل ، أعطني جرعة .. فأنا متعب " . فيبتسم أبو الخير ، ابتسامة جديدة هذه المرة " أجل يا صديق ، سأعطيك هدية .. لكنها آخر مرّة ، والمرة القادمة ، سآخذ منك مبلغا ً بسيطا ً مقابل كل جرعة ، تعلم الأوضاع صعبة ، والعيال بدها أكل " .
وهكذا ... اختفت عطايا أبو الخير وبركاته ، وأصبح هو أيضا ً شخصا آخر . وكانت الجرعات تزداد ثمنها يوما ً بعد يوم ..
المال الذي يحصل عليه من والده ، غير كاف .. كان لابد من أن يسرق بالخفاء . أن يأخذ كل ما يجده ، أن يبيع أغراضه ، وكل ما يتمكن بيعه من متاع البيت . كان يمضي أيامه وهو يحاول أن يوفر ثمن جرعة ، غير آبه ٍ ولا مكترث لما يحدث حوله . " هذه المرة فقط يا أبو الخير ، خذ نصف الثمن ، أنت تعلم أنني بحاجة إليها .. سأموت إن لم أحصل على هذه الحقنة " . فصاح به صديقه القديم " هذه المرة فقط ، والمرة القادمة سيكون ثمن جرعتك مضاعفا ً ، وإن لم تملك المال فلا تعد إلى هنا مرة أخرى " .
كانت شياطين الجحيم تشرب روحه ، وتمتصها بلؤم .. جال في شوارع المدينة غائبا ً وضائعا ً ، نام في أزقتها المظلمة ، وغرفها المشبوهة ، تعرف على تلك الطبقة المختئبة في احشاء العتمة والظلمات . كان عالما ً مجنونا ً ، وبشعا ً .. ذلك العالم السفلي . لكنه قد فقد نفسه تماما ً ، ولم يعد يذكر طريق العودة إلى بيته .ورأى العالم الذي تشرق فيه الشمس بعيدا ً ونائيا ً ، لا مكان فيه لأمثاله .
حاول أن يحصل على جرعاته بكل الطرق ، والأعمال المشبوهة ، لا يذكر كل ما قام به من أجل أن يقدم قربان لذلك الوحش الذي تملك جسده . مارس كل طقوس العالم المظلم . ولم تكن فيه خلية واحدة ناجية من جنون إدمانه . وكل مرة يعود إلى أبي الخير ، ذليلا وخاضعا ً ، راجيا أن لا يزيد ثمن الجرعات ويكتفي بما يأخذه منه .
لكنْ أبو الخير ، كان يعرف تماما ً ، كيف ينتشر اللهيب في جسد الشاب ، وكيف تجتاحه الطعنات ، وأن الألم الذي يزلزل أجزاءه لا يمكن أن يتوقف إلا بهذه الجرعة ، وأن هذا الشاب سيدفع ثمنها ولو دما وروحا ً . وبهذا كان يكسب رزقه من مئات الشباب الضائعين ، الذين ابتلعهم وحل الإدمان . " أنت تعرف يا صديقي أن الأوضاع صعبة ، ولا أستطيع أن أبيعك الجرعة بهذا المبلغ الصغير بعد الآن ، أنا أتعب في عملي ، وأنت تعرف الخطر الذي أواجهه لأوفر لك هذه الحقنات " .
- لكنني أحتاجها ... أنا أتمزق
- هذه مشكلتك . وليست مشكلتي ..
أين اختفت الأضواء ؟ من الذي سرق الهواء النظيف ؟ والماء الزلال ؟ والبيوت المبتسمة والشبابيك المليئة بالأحلام ؟ ... كان وحيدا ً ، وصغيرا ً أمام قوة ضخمة تصر على إتلاف كل ما تبقى منه ومن حياته . وقف هناك أمام أبي الخير ، الألم يحرق أطرافه ، ويمزق أعضاءه ، لم يتبق له أي شيء الآن .. كان بلا هوية ، لم يكن يذكر اسمه ، لم يعد يعرف الطريق إلى بيته ... لم يكن حيا ً ولا ميتا ً ، ولم تكن له رغبات سوى رغبة واحدة ، أن يحصل على الحقنة . لكن أبو الخير لن يمنحه واحدة اليوم.
اجتاحته موجة إنكسار ، وشعر أنه ضئيل وصغير ، في بطن عالم متوحش سلبه الحياة والإنسانية . لم يعد له أيّ شيء في هذا المكان ، لم يعد يشعر بأن بداخله روحا ً تخفق . لم يعد في صدره سوى فراغا موحشا وأسود ، كان جثة محشوة بالبؤس ، وبشظايا حياته المدمرة ، أنفاسه لزجة ، حلقه تستوطنه الطحالب والعوالق المميتة ، تمتص كل ذرة نظيفة تحاول أن تدخل لصدره أو تمنحه بعض الأمل .
نظر إلى شارع طويل ، لم يكن له نهاية .. كان يبدو مثل بئر سحيق يمتد حتى الظلمات المنسية ، بلا قرار . من دخل هذا الشارع فهو ملعون ، ضائع .. مفقود حتى آخر رمق فيه . سار بلا وجهة .. سار طويلا ً وعبر الأزقة والحارات ، كان غارقا في وحله حتى العمق . كان يشعر بالنهاية القاسية تتصاعد إلى رأسه ، لقد بدأت أجزاؤه بالتساقط .. واحدة تلو الأخرى ، وهو يسير ... ولا يرى ، ولا يفكر ، لقد ترك مصيره النهائي للعتمة العمياء .
" سأودع هذا العالم ، سأختار العدم الذي لن يذكرني ، والذي يغيبني حتى الأبد ، لقد متّ منذ وقت طويل ... لكنني لم أدرك هذا سوى الآن ، وفي هذا العالم ، أنا لست سوى جرثومة تتغذى على فضلاته ، وتلحق الأذى بالأشياء الجميلة " . لقد بدت لحظة النهاية جلية في عقله ، وشعر أنه توصل لأول مرة منذ فترة طويلة إلى قرار سليم وحقيقي .. سينهي حياته ، سيحرر الآخرين من وجوده المؤذي ، سيحرر نفسه من الألم الفظيع ، ولن يكون بحاجة أي أحد بعد الآن .. سيخرج من بطن هذا الوحش ، ولن يكون هناك المزيد من أمثال أبي الخير يستعبدونه ويستغلونه .
كانت فكرة لامعة ، شعر بقوة مخيفة تناديه نحو الموت .. ركض بجنون ، نحو جسر المدينة ، ركض وركض وركض .. وشعر أنه سعيد كما لم يكن أبدا خلال فترة طويلة ، كان يقرر ... لقد قرر أخيرا ً أن يكون حرّا ً ، وأنه لن يحتاج أية حقن بعد اليوم ...
وقف على حافة الجسر ، كان ينظر للعالم مرة أخيرة . الأشجارُ ، الأضواءُ ، السياراتُ ، الناس الطيبون ، الروائح الزكية ، ضحكات طاهرة .. كلها أشياء بدت مختلفة وجميلة ، أشياء لم يرها سابقا ً . كان ينظر للحياة ، شعر أنها تحاول أن تقول شيئا ما .. لكنه لم يكن يفهمها ، لم يكن يسمعها .. شعر بحزن ثقيل ، ثقيل ... يجذبه نحو القاع ، يجذبه بقوة . كان طائرا صغيرا وجريحا ً في سماء واسعة .. لمعت في عينيه دمعة دافئة ... نزلت على خده الغائر ، تذكر لمسة أمه التي مسحت هذه الدمعة كثيرا ً . الآن يتذكر .. ويعرف ، لكنها لحظة الموْت التي لا يستطيع الفكاك منها . شعر أنه يتباطأ ... وأن الحياة تحايله مجددا ً ، لابد من إنهاء الأمر سريعا ً . " هذا العالم ليس لي .. " . أغمض عينيه ، ثم قفز .
لكنه لم يمت ْ يومها . استيقظ على صوت أمه ِ ، في المستشفى ... ولم يصدق ، أو لم يفهم .. إصرارَ الحياة على أن تبقيه هنا . شعر بالكآبة واليأس . لم ينجح في أي شيء حتى في محاولته لأن يموت ! . العالم بالنسبة له مكان مخيف ، لا يريد أن يبقى فيه ، كان يحلم بالكوابيس والحقن وأبي الخير والأزقة التي تشبه القبور . وكان يبكي بحرقة وينتفض من الألم والخوف ، كلما تذكر حياته القديمة .
لكنّ الأمل والحلم ، يتسللان إلى أي قلبٍ عرف طعم الحياة . كانت الأيام الطويلة التي قضاها في العلاج قاسية وشاقة ، لكنه شعر بالأمان ،والإنتماء هناك ، حيث كان محاطا بالعناية والإهتمام . كان كل ما حوله يكتسب لونا ً ومعنى ، كان مكانا نظيفا ً وهادئاً ، ومليئا ً بالناس اللطفاء . وبدأ قلبه يستعيد اللون الوردي ، وبدأت روحه تتحرك في أجزائه . لقد كان يتألم أحيانا ً ، ويكتئب أحيانا ً أخرى .. لكنه كان يبتسم أيضاَ ، ويتذكر ويتعرف على أشياء جديدة . شعر بأنه حيّ ... وكان لهذا الإدراك أثرا ً عميقا ً في نفسه .
تعبره الذكريات ، الآن هو شخص آخر . شخص جديد ، ذاته صفحة بيضاء ، عليه أن يملأها ويسد فراغاتها ، عليه أن يجد هويته ، وعليه أن يجد مكانا ً واضحا ً ونظيفا ً ويلتصق فيه بقوة ٍ وإرادة . عندما خرج من المستشفى .. شعر بالكأبة والخوف حينما واجه العالم الكبير . عندما شاهد الملامح القديمة ، الذي تذكره بأشياء كثيرة لا يرغبها . كان في داخله مرعوبا ً وضعيفا ً . ولم يكن هذا العالم الواسع آمنا ً بالنسبة له . لذلك قرر والداه أن ينتقلا بعيدا ً إلى بلد ٍ آخر ، صغير وهادىء .. حيث يمكن له أن يستعيد عافية روحه ، ويكبر الإنسان فيه قويا ً وصالحا ً ، حيث يمكن أن يغذي بذرة صالحة في قلبه ِ .قلبه ُ الذي انطفأ فيه النهار ذات يوم ، لكنه الآن عاد وأشرق ..