الاثنين، 14 فبراير 2011

كان الماضي حقّاً أجمل !!



كانوا أشخاصاً طيبين، يعيشون مع بعضهم، في سهراتهم الطويلة يتحدثون كثيراً عن أمور كثيرة، عن الوطن الممزق عن الظلم، يروون قصصاً كثيرة الإنسان فيها أكثر إشراقاً ومحبة. يقولون أن الناس "زمان" كانوا أكثر صدقا وطيبة، أن الحياة كانَ لها شكلاً أعمق، والمعاني كانت تفيض من كل شيء. كل شيء له معنى، الأمور التي نراها بسيطة الآن كانت قيّمة.. يتحدثون عن كل الأمور التي لم تعد موجودة. المحبة والأحاسيس النبيلة، الخير الكثير وراحة البال والأمان.. كل هذه الأشياء لم تعد موجودة – كما يقولون بالطبع. فهم عارفون بأمور الماضي كلها، الماضي كان أفضل بلا شك.. كيف وصلنا إلى هنا إذن؟.. سألت ذات مرة أحدهم. إن كان ماضيكم جيداً وكنتم أناساً جيدين، وكل هذا السوء لم يكنْ موجوداً – بعد- فكيف أنجب هذا الماضي الجيد واقعاً مظلماً؟ لقد كان سؤالا محرماً، بعض الماضي يكاد يكون مقدساً إلى درجة أصبح من غير الممكن أن نسأل عنه، كان علي تقبل الأشياء كما هي دون أن أسأل.. فلسبب ما أنجب الماضي الطاهر واقع الخطيئة، ربما السبب أبناء هذا الجيل الخاطئين، ربما هذا التفسير أسهل من السؤال نفسهِ علينا، ولا بأس أن لا نفهم أي شيء.. الأشخاص الطيبون الذين لم يفقدوا الإيمان بالعادات القديمة، يعرفون كل القصص الجميلة التي لم تعد تحدث، وبعض القصص الأخرى التي يصعب أن تحدث حتى في أحلامنا، لكنهم يؤكدون أنها حدثت، كما حدث في تلك القصة التي سأرويها عنهم :
يقولون أنه مرّت أيام قحط شديدة القسوة والجفاف، ماتت أغلب الماشية وجفّ الزرع ونتن الهواء.. انتشرت الأمراض الغريبة، حصدت أرواح الكثيرين، كانوا يصلون نهارَ مساء، للإله ِ العظيم أن يرفع عنهم هذا البلاء الشديد.. وبينما هم يصلون في مصلاهم، إذ جاء عليهم طفل يصرخ: مطر.. مطر، المطر رح يجي لعنا .. خرج الأهالي جميعاً مهللين.. ينظرون إلى السماء الغائمة، يشتمون أنفاس الريح الباردة النقية، كادوا ينسون طعم الّريح القادم من الغرب بنكهته البحرية ويتلذذون بأولى حبات المطر تسقط هادئة وناعمة. وبينما هم كذلك، أبصروا رجلاً قادماً من بعيد، يرتدي لباساً أبيضاً.. فاستغربوا شأنه وعلى عادتهم الطيبة ركضوا نحوه مستقبلين. استضاف أهل القرية هذا الرجل في مضافة القرية، وحدثوه عن محنتهم وشدة كربتهم، وعن صلاتهم ودعائهم .. وعن هذا اليوم المبشر الذي اجيبت فيه صلواتهم وفتحت السماء صدرها لهم. استمع الرجل بصبر، وهزَ رأسه باهتمام... ثم رفع يده طالبا منهم السكوت، وبدأ بالحديث: اليوم أجيبت صلواتكم من السماء، ولقد أتيتكم منها حاملاً معي المطر والغوث، لأعلن نهاية البلاء، وبداية العصور الخضراء.. فأنا البشير لكم. بهت أهل القرية لكن كبيرهم قام وصاح: يا مرحباً بكَ أيها البشير، بت بيننا عزيزاً ومكرماً..
وأخذت الحكايات تنتشر في القرية، عن الرجل الذي جاء حاملاً المطر وقدم رسولاً بالخير، وعن بركاته وكراماته وعجائبه. وأخذ الناس يتدافعون إلى المضافة، يتمسحون بجسده ولباسه الأبيض ويطلبون الرضا والمغفرة والوساطة عند السماء، والدعاء المستجاب. وقد حاولَ الأهل تقديم القربات والعطايا لهذا الرجل المبارك، لكنه كان يرفض قبولها.. ولم يأخذ حتى الأكل البسيط.
ومكث فيهم أسبوعاً صائماً عابداً.. وفي اليوم الثامن، أرسل إلى الناس خبراً، بأنه تلقى أمراً بالرحيل، وأنه يريد أن يجمعهم لكلمة أخيرة، يودعهم بها. فاجتمع الناس.. وأخذ الرجل بالحديث، فذكرهم بالخير والأخلاق، وأطال بالوعظ.. ودعا لهم ثم سكت. فقام أحد رجال القرية وقال: يا أيها الرجل الذي أتيتنا حاملا المطر، لكنك لم تأخذ شيئاً حتى الأكل، فبقيت صائماً بيننا بعد أن جلبت لنا سبب الحياة وإنا لنخشى أن تذهب هكذا فتعود السماء إلى غضبها.. فوقف الرجل وأدار بنظره على الجالسين، ثم قال: أما العطايا فلم آتي لأجلها، إنما أنا رجل أتيتكم ببشرى، وسأذهب كما أتيت. ولكن إن أردتم أن لا تنساكم السماء مرة أخرى ولا تضل غيماتها عنكم، فأرسلوا معي وثائق ما ملكتم من الأرض والزرع، لأختمها بختم الأولياء الموجود عند الولي الأكبر في مدينة أخرى، على أن أعيدها لكم السنة القادمة في رحلتي المقدسة.
ويومها، تدافع أهل القرية بوثائق أراضيهم يحفظونها مع هذا الرجل المبارك، ومن أقدس سراً من الأولياء الصالحين؟..
لكن القصص التي تبدأ سعيدة لا تنتهي كذلك دائماً، فقد مرّت سنة، واثنتين.. والرجل المبارك لم يعد. ثم في السنة الثالثة هجم على القرية جنود وغرباء ادعوا ملكية الأرض.. وعندما احتج الأهالي، اخرج الغرباء وثائق ملكية تثبت صحة أقوالهم. ولم يستطع أهالي القرية إثبات حقوقهم، وقال بعض الناس دعونا ننتظر السنة القادمة علّه يأتي الرجل الصالح، وطلبوا مهلة عامٍ .. ومرت السنة وتلتها السنة، فقال بعض الناس: نرحلُ نحن ونبحث عن الرجل الصالح ونأخذ وثائقنا، فحزموا أمتعتهم ومضوا.
يقول الناس الطيبون: أنهم أضنوا قلوبهم في الإنتظار، لكن أحداً لم يجيء، لا رجل المطر، ولا أولئك الذين رحلوا في البحث عنه. أما قريتهم فقد هجروا عنها إلى قرية مجاورة، ثم هجروا مجدداً إلى أماكن أخرى.. وهكذا كتبت عليهم الغربة والفقد وتشتتوا.. ومن تبقى منهم لا يزال يدعو باسم الرجل الصالح الذي حمل إليهم المطر.
الآن من سيصدق أن رجلاً ما يحمل على ظهره المطر ويجوب الأرض؟.. ثم مهما كانت رحلته مقدسة، ولو جاب الأرض كلها فلن يستغرق كل هذه السنوات!. هذا يحدث في الماضي فقط.
في طريق المخيم الضيق، وفي يوم ممطر.. ضحكنا كثيراً أنا وأخي على هذه القصة.. على أبطالها الساذجين ورواتها الأكثر سذاجة، وعلى جدتي التي سوف تقاطعنا اربعين يوماً إن هي علمت أننا ضحكنا. كان الطريق ضيقاً واليوم ممطراً... ونحن نضحك على تلك الفكرة التي تبدو ساذجة بأن الأشياء كانت أفضل في السابق، استنتجنا من هذه القصة ومثيلاتها أن الأشياء لم تكن أفضل، لكن الناس كانوا أجهل من أن يدركوا ذلك. كنا ذاهبين لإستلام حصتنا من الطحين .. من إحدى المنظمات الخيرية، كان كيساً صغيراً جدا علينا، ومع ذلك كنا نمشي مسافة طويلة لإستلامه.. كنت أفكر بكل هذا الحديث الذي بدأناه لنضحك.. لكنه أوصل قلبي إلى غصة مكبوتة، من الأفضل أن تظل كذلك.. ولوقت طويل حاولت أن أطرد من بالي سؤالاً ملحاً : ما وجه الشبه بين ذلك الرجل الذي حمل المطر، وهؤلاء الذين يحملون إلينا الطحين؟..لا.. ليس ثمة شبه بين غيمة مطر كثيفة، وكيس الطحين الصغير هذا.
ابتسمت مع داخلي، ربما.. الماضي حقاً أجمل، فالناس لم يكونوا ليصدقوا رجلا يحمل كيس طحين.





 
Arabization 3alymni-b