بقلم : A. Qarawani
كنتُ جثة هامدةً ممددة على سريرٍ أبيض، غرفة باردة كالثلج، تغصّ برائحة الدواءِ ولا نوافذ..
كانت أمي جالسةً قربي طوال شهرين، وإن كنتُ فاقدة الوعي أغلب الوقتِ غير أني كنتُ أحلم أنّ أنفاسها تعبر رئتي المعطوبة بدفء، وأسمعُ بكاءها السري، وأحزنُ من عجزي أن أفتح عينيّ أو أمدّ كفي المرهقة، وألمس خدها الناعم ، وأقول لها: «هل تسامحيني؟»..
كنتُ أحاولُ أن أقول لها كلما صحوت، أنني نادمةٌ جداً، وأنني لنْ آكل الثلج المكوم على حافة النافذة وأغصان الشجر بعدَ الآن . لكنّ الجحيم كان يستعرُ داخلَ جسدي، والصدر حارّ ينضحُ بالدّم؛ السّل ينهشُ أنسجة الرئة الصغيرة، والحنجرة بيضاءُ كقطبِ الجليد. لمْ أكنْ جسداً واحداً.. كانت روحي معلقة في السقف، أنظر إلى أمي، وأسمع كلام العابرين، وأنظرُ إليّ.. طفلة ذات خمسِ سنوات هزيلة وزرقاء، وأتساءل: لمَ لا يغطونني والبرد قارس؟..
كلما فتحتُ عينيّ تسرعُ أمّي نحوي، تمسّ جبيني بحذر، تتمتم أشياءَ لا أسمعها ولا أفهمها.. كنتُ أريدها أن تقبل خدي الغائر في وجهي، أن تحضنني كي أتأكد أن جسدي لمْ يتحلل بعد. ويهذي ما تبقى في القلب: أتخشى أن تقترب مني أكثر؟
كنتُ أرحل في فسحةِ اللاوقتِ، اللا إحساس، الذهول، والترقب .. وكان لابد أن أصلَ إلى إحدى الضفتين كي تكفّ الرئة عن الفوران، وتهدأ الأنفاسُ المضمخة بالدم، وأتخلص من رائحة الكيمياء الدائرة في جسدي ..
للسقف طعمُ الغربة. أن تراقبَ نفسكَ من علو، وتطالع خطى الوقت، وحركات الزائرين، أن تكون قربـ «ك» دون أن تكون فيك. أن تراقب المكان، وأنت غير مرئيّ. وببطء تفقد حرارةَ الحياة، ويتجمد اللون الوردي في بتلاتِ الرّوح، ليس الألمُ، ولا التعبُ ما يثقل حبال القلب. إنما هذه الحيرة، بين الرغبة في البقاء، والحاجة للخلاص. كنتُ أتوقُ للرّاحة .. لكنّي كنتُ أتوقُ لنفسي أيضاً، لنكهةِ الصباح، لمرحِ الطفولة، ولملمسِ الأرض.
لم يكن أحدٌ قادراً على أن يعيدني، وبدأت أدركُ أنّ السقف لن يتحملني طويلاً.. وأنني متعبةٌ بما يكفي لكي أذهب. أرخيتُ روحي.. وشعرتُ بتمددِ الهواء، واتساعِ الفضاء وخفة فقاعات الصابون.. فأغمضتُ عيني، وحلقتُ... حلقتُ، حتى شعرتُ بغياب كل شيء، وأنني أتصاعدُ كبخارٍ وأتناثرُ في جوفِ الكون.
كان البرد يتلاشى قليلاً قليلاً، ثم أخذتْ تغمرني حبّات دفء طرية، واختفت رائحة السقف والممرات البيضاء، وشعرت بفسحةٍ خضراء تملأ روحي. حلمتُ بي، حلمتُ بالطفولة، بملمسِ الأرض، بعطرِ البيت، بالأزهار، بالألعاب.. وحلمتُ بأمي..
شعرتُ بخصلاتها الناعمة تهطلُ فوق وجهي، وتحسّستُ بَللَ أنفاسِها في الهواء، تصورت طيفها الحاني.. وانتابني وهجُ الشوق .. ففتحتُ عينيّ..
رأيت الغرفة البيضاء، وأنا طفلة هزيلة ممددة على السرير، وأمي نائمة قربي.