لـَـوْ كُنْتُ عُصفوراً
في صَباحٍ خَريفيٍّ باكرٍ،جَلـَـسَ مُحَمَّدٌ عَلى الحَصيرةِ في غُرْفَـتِهِ وَأخَذَ يُفَكِّرُ في صَمْتٍ،اليَوْمُ هُوَ أوَّلُ أيَّامِ السَّنةِ الدِّراسِيَّةِ في المُخَيَّمِ،وَسَوْفَ يَدْخُلُ الصَّفَّ الخامِسَ،سَيَتَعَلـَّـم أشْياءَ جَديدةً،وَرُبَّما يَحْصُلُ عَلى كُتُبٍ جَديدَةٍ.وَمُحَمَّدٌ يَهْوى الكُتُبَ لكِنَّهُ لا يَتَمَكَّنُ مِنَ الحُصولِ عَلَيْها إلا في أوْقاتٍ نادِرَةٍ..أحْياناً كانَ يَسْتَعيرُ كُتُباً مِنْ أساتِذَتِهِ أوْ مِنْ شَيْخِ المَسْجِدِ، ذاتَ مَرَّةٍ أحْضَرَ لَهُ والِدُهُ كِتاباً مِنْ مَكْتَبَةِ المَدينَةِ وَكانَ أجْمَلَ الكُتُبِ الَّتي قَرَأها عَلى الإطْلاقِ،لكِنَّهُ تَذَكَّرَ أيْضاً أنَّ ذلِكَ الكِتابَ كَلَّفَ والِدَهُ الكَثيرَ؛حَيْثُ اضْطُرَّ والِدُهُ لِلْعَمَلِ أسبوعاً كامِلاً فِي تَنْظيفِ المَكْتَبَةِ مُقابِلَ أنْ يَحْصُلَ عَلى ذلِكَ الكِتابِ،وَكانَ هذا يُؤْلِمُ مُحَمَّداً كَثيراً.كانَتْ عائِلَةُ مُحَمَّدٍ فقيرةً جِدَّاً شَأنَ مُعْظَمِ العائِلاتِ اللاجِئَةِ في المُخَيِّمِ.لذلِكَ قَرَّرَ مُحَمَّدٌ مُنْذُ الصِّغَرِ أنْ يَجْتَهِدَ في دُروسِهِ،فَقَدْ أخْبَرَهُ والِدُهُ ذاتَ يَوْمٍ أنَّ بِالعِلْمِ فَقَطْ يَسْتَطيعُ الإنْسانُ التَّغَلُّبَ عَلى الفقرِ.كانَ والِدُهُ حَريصاً جِدَّاًعَلى تَعْليمِهِ،وَكانَ يَعْمَلُ طَوالَ النَّهارِ أعْمالاً شاقَّةً وقاسِيَةً،فَيَخْرُجُ السّاعَةَ السّادِسَةَ صَباحاً،وَيَتَوَجَّهُ إلى المَدينةِ لِيُنَظِّفَ أحْذِيَةَ المارَّةِ وَيَجْمَعُ نُفاياتِ الشُّقَقِ مُقابِلَ أجْرٍ زَهيدٍ،وَكانَ يَمْضي الليْلَ في حِراسَةِ وَتَنْظيفِ المَصانِع والمَدارِسِ،وَكُلُّ ذلك لِيُوَفِّرَ المَبْلَغَ اللازِمَ لِتَعْليمِ مُحَمَّدٍ،وذلِكَ يُحْزِنُ محمداً،لكِنَّهُ أيْضاً يَدْفَعُهُ إلى الإجْتِهادِ وَالعَمَلِ.كانَ والِدُهُ يَقولُ لَهُ "رُبَّما تَسْتَطيعُ يَوْماً ما أنْ تَلْبِسَ بَذْلَةً سَوْداء وتَحْمِلَ حَقيبةً وَتَكونَ مُهَنْدِساً أوْ مُحامِياً أوْ طَبيباً،عِنْدَها أسْتَطيعُ أنْ أرْفَعَ رأسي وأفْخَرَ بِكَ، لكِنِّي أخافُ أنْ تَخْجَل أنْتَ مِنِّي لأنِّي أمْسَحُ أحْذِيَةَ المارَّةِ وَأعْمَلُ حارِساً،لا تَخْجَلْ مِنْ أهْلِكَ يا بُنَيَّ،لا تَنْسَ أهْلَكَ يا وَلَدي"،فَيَصيحُ مُحَمَّدٌ"لا تَقُلْ هذا،هذا لَنْ يكون".
هُناكَ شَبابٌ غادروا المُخَيَّمَ وَلَمْ يَعودوا،تَركوا أهْلَهُمْ وَسافَروا بَعيداً،كان مُحَمَّدٌ يَتضايَقُ عِنْدَما يَتَحَدَّثُ أبوهُ عَنْهُمْ، وَكانَ يَكْرَهُهُمْ،إنَّهُ لا يَتَصَوَّرُ أنَّ هُناكَ أحَدٌ يَسْتَطيعُ أنْ يَتْرُكَ أهْلَهُ..وَهُوَ مُنْذُ أنْ كانَ صَغيراً وَأبوهُ يُعَلـِّـمُهُ أنْ" لا تَعُضَّ اليَدَ الَّتي أطْعَمَتْك" فَكَيْفَ إذا كانَتْ هذِهِ اليَدُ أيْضاً هِيَ يَدُ الحَنانِ والعَطْفِ وَالحُبِّ وَيَدُ أمِّهِ عائِشة أوْ يَدُ أبيهِ عَبْدِ الرحمن؟.
في هذِهِ اللحَظاتِ قَطَعَ تَفْكيرَهُ صَوْتُ أمِّهِ:"مُحَمَّدٌ،إنَّها السّاعَةُ السّابِعَةُ،تعالَ وافْطِرْ".تَناوَلَ مُحَمَّدٌ حَقيبَتَهُ وَنَظَرَ إلى أخْتِهِ الصَّغيرَةِ النَّائِمَةِ وَفَكَّرَ في نَفْسِهِ"لا شَكَّ أنَّها تَحْلُمُ حُلْماً جَميلاً".خَرَجَ مُحَمَّدٌ مِنَ الغُرْفَةِ وَقالَ لأمِّهِ:"لا أريدُ أنْ أفْطِرَ"، فَسَألَتْهُ إنْ كان يُريدُها أنْ تَصْنَعَ لَهُ فَطيرَةً لكِنَّهُ هَزَّ رَأسَهُ رافِضاً،ثـُمَّ قَبَّلَ يَدَها وَخَرَجَ.
في المُخَيَّمِ طَريقٌ ضَيِّقٌ امْتَلأ بالأطْفالِ الذينَ تَبْدوعَلى وُجوهِهِمُ البَهْجَةُ،كانَ الأطْفالُ يَقِفونَ تارَّةً،وَيَرْكُضونَ تارَّةً أخْرى،كانوا جَميعُهُمْ أصْدِقاءً،لكنَّ مُحَمَّداً لا صَديقَ لَه.ُ.في الواقِعِ قَبْلَ سَنَتَيْنِ كانَ لَهُ صَديقٌ يُحِبُّهُ كَثيراً اسْمُهُ ابْراهيم،أصابَهُ مَرَضٌ شَديدٌ وَلَمْ يَسْتَطِعْ والِدُ ابْراهيمَ تَوفيرَ الدَّواءَ اللازِمَ،إنَّ مَرَضَ ابْراهيم لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلاجٌ داخِلَ المُخَيَّمِ،وَما خارِجَ المُخَيَّمِ تَعْجَزُ اليَدُ الفَقيرَةُ عَنْ الوصولِ إليْهِ.لا يَزالُ مُحَمَّدٌ يَتَذَكَّرُ ابْراهيمَ الصَّغيرَ جَيِّداً،كانَ لإبْراهيمَ حُلْمٌ وَحيدٌ هُوَ أنْ يَعودَ إلى عَكَّا،أمَّا مُحَمَّدٌ فَحُلْمُهُ أنْ يَعودَ إلى صَفَد،وَكَمْ كانا يَبْكِيانِ لأنَّ صَفَد تَبْعُدُ عَنْ عَكَّا،وَتواعدا ذاتَ يَوْمٍ-إن عادا للوطن-أنْ يَزورا بَعْضَهُما في الأعْيادِ وَالمواسِمِ.لَمْ يَعِشْ ابْراهيمُ لِيُحَقِّقَ حُلْمَهُ،لكنَّ مُحَمَّداً قَطَعَ عَلى نَفْسِهِ عَهْداً،أنَّهُ إذا عادَ لِفِلَسْطينَ سَيَزورُعَكَّا حَتْماً.
لَمْ يَسْتَطِعْ مُحَمَّدٌ بَعْدَها أنْ يَجِدَ صَديقاً مِثْلَ ابْراهيم،وَاكْتَفى بِمُصاحَبَةِ الكُتُبِ وَالعصافيرِ وَالحَمامِ.وَمَع هذا كانَ مُحَمَّدٌ يُحِبُّ أطْفالَ المُخَيَّمِ كَثيراً وَيُساعِدُهُمْ في المُذاكَرَةِ،وَكانَ مُسْتَعِدّاً أيْضاً لأنْ يُعيرَهُمْ كِتابَهُ الوَحيدَ لَوْ أنَّهُمْ طَلَبوا مِنْهُ ذلِكَ.إنَّ ما يَجْمَعُهُ بِهِمْ كَبيرٌ جَدّاً،فَهُمْ فِلِسْطينيّونَ مِثْلَهُ،بَلْ إنَّهُ لا يَعْرِفُ فِلَسْطينيِّينَ غَيْرَهُمْ،هُمْ أهْلُهُ وَجيرانُهُ،وَرَغْمَ اخْتلافاتِهِمُ الصَّغيرَةِ فَإنَّ حُلْمَهُمُ الكَبيرَبِأنْ يَعودوا لِلوَطَنِ يَجْمَعُهُمْ،وَهذا الحُلْمُ في الحَقيقَةِ لَنْ يَتَحَقَّقَ إلا إذا اجْتَمَعوا مَعاً عَلى تَحْقيقِهِ.
عِنْدَما وَصَلَ مُحَمَّدٌ مَدْرَسَتَهُ،جَلَسَ عَلى حَجَرٍفي السّاحَةِ،مُنْتَظِراً أنْ يَدُقَّ الجَرَسُ،وَما يَحْدُثُ بَعْدَ أنْ يَرُنَّ الجَرَسُ فَهُوَ مَشْهَدٌ يَتَكَرَّرُ في بِدايَةِ كُلِّ سَنَةٍ دِراسِيَّةٍ:أولاً يَصْطَفُّ الطُّلابُ وَيَقْرأونَ الفاتِحَةَ وَيُنْشِدونَ النَّشيدَ الوَطَنِيَّ،يَتْلو المُديرُ تَعْليماتِهِ وَتَحْذيراتِهِ،ثُمَّ يُقَسِّمُ المُعَلِّمونَ الطُّلابَ وَبَعْدَها يَدْخُلُ الطُّلابُ صُفوفَهُم.
اخْتارَ مُحَمَّدٌ الجُلوسَ في مَقْعَدٍ أخيرٍ قُرْبَ النّافِذَةِ،كانَ باستِطاعَتِهِ أنْ يَرى مِنْ خِلالِها المُخَيَّمَ وَالنّاسَ وَالعَصافيرَ في السّماءِ،لَكَمْ تَمَنّى أنْ يَكونَ مِثْلَ هذه العصافيرِ حُرّاً طَليقاً.
كانَ اليَوْمُ الدِّراسِيُّ عادِياً جِدّاً بالنّسْبَةِ لِمُحَمَّدٍ،باسْتِثْناءِ حِصَّةٍ واحِدَةٍ،هِيَ حِصَّةُ الجَغْرافيا،وهذه هِيَ السّنَةُ الأولى التي سَيَدْرُسونَ فيها الجَغرافيا.الطُّلابُ الأكْبَرُ سِنّاً يَقولونَ إنَّ أسْتاذَ الجَغرافيا لَيْسَ مِنْ أبْناءِ المُخَيَّمِ وَيأتي كُلَّ يَوْمٍ مِنَ المَدينَةِ،وَهُوَقاسٍ جِدّاً..َلا يُحِبُّ الأطْفالَ أبَداً ويَغْضَبُ لأتْفَهِ الأسْبابِ.وَعِنْدَما دَخَلَ أسْتاذُ الجَغرافيا الصَّفَّ الخامِسَ،لَمْ يَبْتَسِمْ وَلَمْ يَقُلْ سِوى بِضْعِ كَلِماتٍ يَشْرَحُ فيها اسْلوبَهُ التَّدْريسيَّ وَيُخَوِّفُ طُلابَهُ..لَمْ يَسْمَعْ مُحَمَّدٌ ما قالَهُ اسْتاذُهُ تَماماً لأنَّهُ كانَ سارِحاً بِنَظَرِهِ خارِجَ النّافِذَةِ؛كانَ يَنْظُرُ للعصافيرِ،وَيَتَخَيَّلُ أنَّهُ عُصْفورٌ يَطيرُ مَعَهُمْ بَعيداً عَنِ الفَقْرِ وَالحُزْنِ،وَقريباً مِنْ فِلَسْطينَ.تَخَيَّلَ مُحَمَّدٌ نَفْسَهُ وَهُوَ يَطيرُ فَوْقَ فِلَسْطينَ،وَيَمُرُّ مِنْ وِدْيانِها وَيَحُطُّ عَلى أشْجارِها،"لا شَكَّ أنَّهُ لَيْسَ هُناكَ ثَمَّةَ شَيْءٍ في الدُّنْيا يَسْتَطيعُ أنْ يَمْنَعَ العصافيرَ مِنْ أنْ تُحَلِّقَ في فِلَسْطينَ.."لَوْ كُنْتُ عُصْفوراً لَما مَنَعَني شَيْءٌ مِنْ زِيارَةِ صَفَد وَعَكّا" فَكَّرَ مُحَمَّدٌ.
كانَ مُحَمَّدٌ يَتَخَيَّلُ،وَلَمْ يُلاحِظْ أنَّ أسْتاذَ الجَغرافيا قَدْ بَدَأ شَرْحَ دَرْسٍ جَديدٍ.أمّا الأسْتاذُ فَقَدْ لاحَظَ أنَّ مُحَمَّداً لَمْ يَكُنْ مُنْتَبِهاً وَأنَّهُ كانَ يَنْظُرُ عَبْرَ النّافِذَةِ،فَصاحَ قائِلاً:"يا فَتى،أنْتَ الذي تَنْظُرُ عَبْرَ النّافِذَةِ،قِفْ".
أفاقَ مُحَمَّدٌ مِنْ حُلْمِهِ مَذْهولاً وَنَظَرَ تِجاهَ اللوْحِ،فَقالَ الأسْتاذ:نَعَمْ،أنْتَ قِفْ وَقُلْ لي ما اسْمُكَ؟،فَوَقَفَ مُحَمَّدٌ عَلى الفوْرِ وَقال:"اسْمي مُحَمَّدٌ".
-الأسْتاذُ:"أيْنَ كُنْتَ يا محمد؟"
لَمْ يُجِبْ مُحَمَّدٌ وَطَأطَأ رَأسَهُ،سَيَضْحَكُ أسْتاذُهُ وَالأطْفالُ الآخَرونَ إنْ قالَ لَهُمْ أنَّهُ وَصَلَ لِصَفَد،سَيَضْحَكونَ إذا عَلِموا أنَّه تَخَيَّلَ نَفْسَهُ عُصْفوراً حُرّاً،إنَّهُمْ رُبَّما لَنْ يَسْتَطيعوا أنْ يَفْهَموا مَعْنى أنْ تَكونَ حُرّاً كالعُصْفورِ.
كانَ أسْتاذُهُ غاضِباً،وَمُحَمَّدٌ رَأى ذلِكَ في عَيْنيْهِ وَانْتَظَرَ أنْ يوقِعَ أسْتاذُهُ بِهِ عُقوبَةً..وقرر أنه سيتحمل نتيجة أفعاله بشجاعة.لكِنَّ أسْتاذُهُ لَمْ يَشَأ أنْ يُعاقِبَهُ،وَقال:"إنَّها بدايةُ سَنَةٍ دِراسِيَّةٍ جَديدَةٍ،لَنْ أعاقِبَكَ اليَوْمَ،مَعَ أنَّني عادةً أعاقِبُ طُلابي بِشِدَّةٍ.لكِنْ سَأطْلُبُ مِنْكَ في المُقابِلِ أنْ تَقومَ بِشَيْءٍ ما..مِنْ أيْنَ أنْتَ يا مُحَمَّدٌ؟"،أجابَهُ مُحَمَّدٌ:"أنا مِنْ صَفَد"،هَزَّ الأسْتاذُ رَأسَهُ،ثُمَّ عَلَّقَ عَلى الحائِطِ لَوْحَةً كَبيرَةً مَكتوبٌ عَليْها"خارِطَةُ فِلَسْطينَ التّاريخِيَّةِ".نَظَرَ إليْها الطُّلابُ بِدَهْشَةٍ،لَمْ يَرَ أحَدٌ مِنْهُمُ خارِطَةَ فِلَسْطينَ مِنْ قَبْلٍ،بَلْ إنَّهُمُ حَتّى لا يَعْرِفونَ مَعْنى خارِطة!.أمَّا الأسْتاذُ فخاطَبَ مُحَمَّداً قائِلاً:"هذِهِ خارِطَةُ فِلَسْطينَ يا مُحَمَّدٌ،وَلأنَّني لَنْ أعاقِبَكَ اليَوْمَ سَتَأتي وَتُرِيَني أيْنَ تَقَعُ صَفَدُ عَلى خارِطَةِ فِلَسْطينَ،هَيََّا تَعالَ وَأرِنا يا مُحَمَّدٌ".
كانَتْ هذِهِ المَرَّةَ الأولى التي يَرى فيها مُحَمَّدٌ خارِطَةَ فِلَسْطينَ،وَهُوَ لا يَعْرِفُ أيْنَ تَقَعُ صَفَدُ عَلى الخارِطَةِ!،شَعَرَ بِالألَمِ وَالخَجَلِ،إنَّهُ لا يَعْرِفُ أيْنَ صَفَدُ عَلى الخارِطَةِ،إنَّها مَوْجودَةٌ بِالتّأكيدِ لكِنَّه لا يَعْرِفُ أيْن..أيْن؟.
بَعْدَ لَحَظاتِ صَمْتٍ سادَتْ في الصَّفِّ،قالَ الأسْتاذُ:"إذنْ مُحَمَّدٌ لا يَعْرِفُ أيْنَ تَقَعُ صَفَدٌ،لا يَعْرِفُ أيْنَ وَطَنُهُ،أليْسَ مِنَ العَيْبِ ألا يَعْرِفُ أحَدُهُمْ أيْنَ وَطَنُهُ؟.اجْلِسْ يا مُحَمَّدٌ،اعْتَقِدُ أنَّكَ لَنْ تَسْرَحَ في النّافِذَةِ مُطْلَقاً بَعْدَ اليَوْمِ،وَفي الغَدِ سَأسْألُكَ السُؤالَ نَفْسَهُ،تَذَكَّرْ ذلِكَ".
كانَ هذا المَوْقِفُ بِالذّاتِ عُقوبَةً بِالنِّسْبَةِ لِمُحَمَّدٍ،بَلْ إنَّه أقْسى العُقوباتِ بِحَقٍ..جَميعُ الأطْفالِ يَتَهامَسون"إنَّهُ لا يَعْرِفُ وَطَنَهُ،مُحَمَّدُ الشّاطِرُ لا يَعْرِفُ أيْنَ تَقَعُ صَفَدُ".
عِنْدَما عادَ إلى بَيْتِهِ،لَمْ يُكَلِّمْ أحَداً، أغْلَقَ البابَ عَلى غُرْفَتِهِ وَجَلَسَ يَبْكي بِحُرْقَةٍ وَصَمْتٍ،إنَّهُ يَعْرِفُ صَفَدَ أكْثَرَ مِنْ الأسْتاذِ نَفْسِه،إنَّهُ يَراها كُلَّ يَوْمٍ في أحْلامِهِ،رُبَّما الأسْتاذُ لا يَعْرِفُ مَعْنى الحُلْم،وَمَعْنى أنْ تَتَخَيَّلَ أنَّكَ عُصْفورٌ،وَلا يَعْرِفُ مَعْنى الشَّقاءِ وَالألَمِ،إنَّ الأسْتاذَ لَمْ يَعِشْ في المُخَيِّمِ وَيَأتي مِنْ مَدينَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ أنيقَ الثـِّيابِ مُرَتَّبَ المَظْهَرِ..لِكَيْ تَعْرِفَ صَفَد يَجِبُ أنْ تَكونَ لاجِئاً،يَجِبُ أنْ تَعيشَ في المُخَيَّمِ،يَجِبُ أنْ تَكونَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ...كانَتْ الأفْكارُ تَتَوالى في رَأسِ مُحَمَّدٍ وتَعْصِفُ بِذِهْنِهِ،لكِنَّهُ هَدَأ بَعْدَ فَتْرَةٍ،وَقَرَّرَ أنْ يَحْفَظَ الخارِطَةَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ،لِكَيْ يُثْبِتَ لِلْجَميعِ أنَّهُ يَعْرِفُ وَطَنَهُ.
في المَساءِ دَخَلَ أبوهُ غُرْفَتَهُ وَجَلَسَ قُرْبَهُ وَسَألَهُ"لِماذا كُنْتَ تَبْكي يا بُنَيّ؟"،فَحَكى لَهُ مُحَمَّدٌ كُلَّ ما حَدَثَ في حِصَّةِ الجَغرافيا..فَكَّرَ أبوه قَليلاً ثُمَّ قال:"يا بُنَيّ أنا أيْضاً لا أعْرِفُ أيْنَ تَقَعُ صَفَدُ عَلى خارِطَةِ فِلَسْطينَ،لكِنّي أعْرِفُ صَفَدَ أكْثَرَ مِنْ أيِّ شَخْصٍ آخَرٍ،أعْرِفُ وِدْيانَها وَأشْجارَها وَبَساتينِها،أتَذَكَّرُ سُكّانَها،أتَذَكَّرُبُيوتَها التي كانَتْ مُشَيَّدَةً فيها بَيْتاً بَيْتاً،أتَذَكَّرُ مِئْذَنَةَ الجامِعِ وَصَوْتَ المُؤَذِّنِ.هُناكَ أشْياءُ لا يُدْرِكُها سُكّانُ المَدينَةِ لأنَّهُمْ لَمْ يَفْقِدوا مَدينَتَهُمْ،رُبَّما يَجِبُ عَلَيْكَ أنْ تَعْرِفَ أيْنَ تَقَعُ صَفَدُ عَلى خارِطَةِ فِلَسْطينَ،ولكِنْ عَدَمُ مَعْرِفَتِكَ ذلِكَ لا يَعْني أنَّكَ لا تَعْرِفُ وَطَنَكَ،ما دامَ وَطَنُكَ في قَلْبِكَ فَأنْتَ تَعْرِفُ وَطَنَكَ،لا تَحْزَنْ يا بُنَيّ،وَلا تَسْتَسْلِمْ،وَأنا أعْرِفُ أنَّكَ في الغَدِ سَوْفَ تُجيبُ إجابةً صَحيحةً وَتَعْرِفُ أيْن تَقَعُ صَفَدُ،ألَيْسَ كذلِكَ؟".هَزَّ مُحَمَّدٌ رَأسَهُ مُوافِقاً..قامَ والِدُهُ..َوَقَفَ عِنْدَ البابِ،ثُمَّ نَظَرَ إلى مُحَمَّدٍ وَقالَ"العصافيرُ أيْضاً لا تَعْرِفُ الخارِطَةَ،لكِنَّها دائِماً تَهْتَدي إلى أوْطانِها..نَمْ مُطْمَئِنّاً يا بُنَيّ،إنَّ الغَدَ يَومٌ آخَرٌ،احْرِصْ عَلَى أنْ يَكونَ أفْضَلَ مِنْ هذا اليَوْمِ"ثُمَّ خَرَجَ وَأغْلَقَ البابَ.
في اليَوْمِ التّالي،دَخَلَ الأسْتاذُ الصَّفَّ،وَعَلَّقَ خارِطَةَ فِلَسْطينَ..نَظَرَ إليْها مُحَمَّدٌ،كانَ مُطْمَئِنّاً وَهادِئاً،إنَّه يَعْرِفُ وَطَنَهُ وَيُحِبُّهُ بِشِدّة،وَيَعْرِفُ أنَّ لِلوَطَنِ أشْياءَ أبْعَدَ وَأعْمَقَ مِنَ الخارِطَةِ..لا يَسْتَطيعُ أحَدٌ أنْ يَرى أشْجارَ صَفَدَ وَعَصافيرَها عَلى الخارِطَةِ..وَلا أنْ يَعْرِفَ وِدْيانَها وَسُكّانَها..وَمَع هذا شَعَرَ مُحَمَّدٌ أنَّهُ أحَبَّ الخارِطَةَ-فَجْأةً-فَهي في النِّهايَةِ خارِطَةُ فِلَسْطين،ومُحَمَّدٌ يَعْشَقُ كُلَّ ما يَتَعَلَّقُ بِفِلَسْطين..نَظَرَ الأسْتاذُ إلى مُحَمَّدٍ وَقالَ:"أيْنَ تَقَعُ صَفَدُ يا مُحَمَّدٌ؟"..شَعَرَ مُحَمَّدٌ أنَّ قَلْبَهُ يَنْبِضُ أسْرَعَ مِنْ ذي قَبْل،إنَّ صَفَدَ قَريبةٌ..قَريبةٌ جِدّاً مِنْهُ..إنَّ صَفَدَ في قَلْبِهِ قَبْلَ أنْ تَكونَ في أيِّ مَكانٍ آخَرٍ...رَفَعَ مُحَمَّدٌ رَأسَهُ وَأجابَ عَلى سُؤالِ الأسْتاذِ:"في قَلْبي يا أسْتاذُ.."سَكَتَ قَليلاً،ثُمَّ تابَعَ:"وَفي شَمالِ فِلَسْطينَ أيْضاً"..وَأشارَ إليْها على الخارِطَةِ.
أناستاسيا قرواني