السبت، 17 أبريل 2010

وأغمضت القبة عينيها


كنت أراقبُ السماءَ طويلاً ، أراقب الغيمات السائحة .. بعضُ الغيمات تمر خفيفة ، تلقي بظلها الهادئ على كرمة هانئة ، تبتسمُ .. ثم تمضي .. بعضُ الغيماتِ تمرّ كئيبة ، مثقلةٍ بحبّـاتِ الحزن ، تتكىء على وجعها ، فيسيل دمعها غزيراً ورطباً .. فيغسلُ كلّ منافذ الألم .. ويحيي جفاف القلب والرّوح والأرض .. وبعض الغيوم .. تحمل معها الرياح وزخم العاصفة ، تقلب الأشياء .. وتتركُ هوةً في الرّوح لا تلتئم .

كنتُ أراقب غيمات العمر .. غيمةٌ واحدةٌ فقط أصابت العمر فانشطر ، غيمة واحدة رمادية تركت حريقاً في شقوقِ القلبِ ، غيمةٌ ولا تزال ماثلةً كأولِ يومٍ قاتمة كآذان الشؤم . ولا زالت تهبطُ عليّ نجواهم ، كلما أسبلتُ جفنيّ ...

مريم
لا زلتُ أستحضر كل ما حدث، تتوالى في مخيلتي الصور ، وتتردد في مسمعي الأصوات ، وتغص رئتي برائحة الأحداث والأماكن والأشخاص ، وأتذكرني وأنا طفلةٌ صغيرة ، كان كل ما حولي يدور بسرعة حاسمة ، وكنت أصغر من أن أدرك ما يحدث ، لكني علمتُ أن لا شيء سيعود كما كان ... حينَ سمعنا خبر هزيمة القوات العربية ، وأن استيلاء اليهود على مدينة القدس أمرٌ حتمي .

وتناقلَ الأهالي الشائعات عن الدماءِ التي تراق في الطرقات ، واليهود الذين لن يتركوا أحياءً في مدينة القدس ، ويحولونها إلى مقبرةٍ ويهدمون البيوت فوق ساكنيها . في ذلك اليوم ، كان البشرُ يتدافعون عبر طرقات المدينة المقدسة ، بأمتعتهم وأشيائهم ، يتركون بيوتهم فزعين ، بعض الجيران تركوا بيوتهم مفتوحةً ، لم يحملوا متاعاً أو غرضاً ، بعضُ الجيران ائتمنوا أبي على مفاتيحهم وأموالهم . جماعاتٍ يهرعون نحوَ الشاحنات ، وأية وسائل نقل متاحة آنذاك، فراراً من الموت نحوَ مصيرٍ مجهول .

وقال أبي لأمي : " اجمعي أغراضكم يا فاطمة ، وخذي البنات وارحلي مع أخيك ، سأبقى هنا أنا ويحيى نحرسُ البيت ، فالبيوت تموتُ إن لم تؤنسها روح .." ، فتسكت أمي ، وتطأطئ رأسها ، لم تكن قادرةً على أن تترك الحجّ ، والبيت ، والقدس ، وابنها الوحيد يحيى ، لكنها كانت خائفة علينا – ثلاثُ فتياتٍ . كان القرارُ صعباً على الجميع ، ومع الأخبار التي تصلُ عن التنكيل والتعذيب والموت الذي نالَ من تبقى في المدينة ، قررت أمي إرسالنا – أنا وزهرة وسروة – مع خالي ذيب .. نحوَ الضفة الشرقية ، ريثما تهدأ الأمور .

كان فجراً واجماً .. سرنا نحنُ الأربعة في زقاقٍ ناءٍ .. تاركين خلفنا القدس ، بدت كأمٍ ثكلى .. تنتحبُ بنشيجٍ مكتوم أبناءها الضائعين .. كانت شاحبةًوجميلة ، كعابدة صلبوا قدميها في وحلٍ أحمر ، لكنّ أكفها كانت تتجهُ نحو السماء صافية ونقية .
رأيتُ قبة الصخرة ، والجنود يقتحمون ساحتها الطاهرة .. فغشتها سحابة مغبرة ، وأظلمت قبتها الذهبية .. فانقبض قلبي ، وشعرتُ أن للدمع ملحٌ حارق ينخرُ خدّي ، وكان هذا آخر ما بدا من القدس .. ثم أخذت تختفي وراء الجبال شيئاً فشيئاً .. فينحدر معها النبض وتغيب الرّوح، ولا تبقى سوى الظلال الشاحبة ، وعويلُ الأحزان .

لا أتذكر كم سرنا ، لا أتذكر سوى الصمت المخيم على الرّوح ، والصدع الذي لم يهدأ أنينهُ ونزيفهُ ، وآلاف الأسئلةِ التي تصطدمُ بحائط الغيب وترتد حائرة ومفجعة . لم يأكل أحدنا شيئا، لم نشعر بالعطش ، بقدر ما شعرنا بالولع والحريق الذي ألهب ستائر القلب . كنتُ لا أكفّ عن التفكير بكل ما جرى ، بأمي اليائسة ، بأبي – الرّجل الذي بدا أكثر هدوءاً ويقيناً من أي وقت مضى ، بيحيى ... الذي ودعنا ثم توجه نحو المسجد ، لم يلتفت إلى أمي التي حاولت منعه ورجته ، لكنه بدا واثقاً ، لم يقل سوى " نراكم قريباً بإذن الله " .. ثم ذهب .

ترى .. ماذا يفعلون الآن ؟
ربما أمي تطرز ثوبي ، وأبي يدخن غليونه ويسافر في مجرات دخانهِ المنبعثة بكسل ، أما يحيى يتلو الآيات بصوتهِ الجميل ، وجميعهم يفكرون بنا ، قلقون علينا ..آه لو يعلمون فقط أننا بخير ، غير أنّ القلبَ تائه . 

على الطريق صادفتنا شاحنة ، وبعد نقاشٍ طويل مع السائق ، قـَبِل أن يوصلنا إلى الضفة الشرقية مقابل أساور وليرة ذهب .. ركبنا ، وأخذني نومٌ عميق ..

زهرة

... كانت السماء تركضُ في الاتجاهِ الآخر ، وهدير المحرك يضغط على أنفاسي .. غطّ الجميع في نومٍ مثقل ، أما أنا .. فقد حملني قلبي إلى يحيى ، وكان نبضي يتخاطفُ حيناً ، ويتقطع حيناً آخر .. لمَ ذهب إلى المسجد ؟ وكان يدرك أن الجنود سيقتحمونه . لِمَ لمْ يسمع رجاءَ أمي ، لمَ ..
ترى ماذا حلّ بهم الآن ؟ ، عشرات الشباب الذين اختاروا أن يرابطوا في تلك البقعة الطاهرة ، أعرف يا يحيى أنك مستعد لأن تهبَ حياتك فداءً للقدس ، أعلمُ أنّك ستدافع حتى آخر رمقٍ ولن تزعزع قدميكَ قيد أنملة . أعلم أنك ستقف بثباتٍ وصمود وتصميم .. وعندما ذهبتَ ، وغاب عن ناظري وجهك الصبوح ، انتابني شعورٌ غامض – فهل علمتُ أنّك لن تعود ؟ ..

لقد رأيت عندما أغمضت القبة عينيها ، وغطت جبينها الذهبي بوشاحٍ أسود .. لقد رأيتهم وهم يستبيحون ساحتها الطاهرة ، وسمعت دويّ العيارات النارية والانفجارات ... وكان الألم يدوي في قلبي ، ويمزق أوردتي ، وأنا أخشى .. أخشى ، أنّ جسدك الطاهر لن يحتمل هذا الكمّ من الرصاص .
ربما أنت الآن بجوارِ نجمةٍ أو كوكب ، ربما تصاعدت روحك النقية إلى السماواتِ سحابةً بيضاء أو طيراً خفوق . ربما أنت في مكان ما هنا أو هناك .. لكنك حيٌّ حتماً أينما كنت .

سروة

في أحد مخيمات الضفة الشرقية ، يدرك الإنسانُ أن بعضَ الموتِ أرحم . المأسـاة كانت أكبر وأشد من أن نتحملها فرادى ، وكانَ لابدّ من الاستمرارِ معاً ، حتى لا تنفرط حبّات القلب ، وينقطع حبلُ الحياة الرقيق . كان وقع الأمر أشد على مريم الصغيرة ، كانت تفتقدُ أمّـي وأبي ، الدفء والأمان . أصبحَ نومها متقطعاً ، تتخلله كوابيسٌ عن الجنود الذين يقتحمون كلّ شيء ويسرقون الأطفال .. وكانت تلتزم الصمت أثناءَ النهار ، ولا تتناولُ طعاماً أو شراباً سوى رشفاتٍ قليلة من الماء .
أما زهرة فقد انتابتها حمّى شديدة ، بعد يومين من وصولنا للمخيم ، كانت تهذي عن يحيى ، وكيف أنها رأت جسده قد تناثر نوراً ، وتحول إلى فراشات ترفرفُ فوق قبة المسجد .. وكيف أنّ أمّـي كانت تلوح له بشالها الأبيض ، وتدعو الله أن يحفظهُ سالماً ومعافى . وكيفَ أنها رأت أبي يرسمُ لها طريق البيت ، ويدعوها للعودة . وأنها عازمة أن تعودَ في الصّبـاح .. وتلحقَ بيحيى ..
كنتُ أسهر حتى الفجر ، أسمع هذيانها المنهمر كشلالٍ ، أضع القماش المبلل فوقَ قدميها ، واقرأ عند رأسها الأدعية والآيات .
أما خالي ، فقد كان حملهُ ثقيلاً ، كنا ثلاثتنا أرواحاً معلقة في رقبتهِ ، وكان يمضي النهار يبحث عن ما نعتاشُ بهِ . كان يحاول أن يجدَ مخرجاً ما ، أو وضعاً أفضل من خيمتنا الصغيرة ، وكان كل يومٍ يمضي .. يزداد الحال سوءاً ، وقد كنتُ قلقةً عليه .. وعلينا ، خائفة من أن يتداعى هذا الجبلُ أمامَ موجِ الغربة ، فنغرقُ جميعاً ..

بعد مدّة ، سمعنا أخباراً جيدة عن القدس ، وعن أن بعضَ السكان تمكنوا من العودة إلى بيوتهم، لكننا لم نسمعَ أي شيء عن بيت الحاج أبي يحيى كنعان ، لم نسمعَ أية أخبارٍ عن ابنهِ أو زوجتهِ ، لم نعرف ماذا حلّ بمن تبقى في القدس .. كانت هناك آمالاً بالعودة ، وأحاسيسَ أخرى قاتمة ، وموجعة ..
وكان خالي عازماً على أن نعود في أقربِ فرصة ، لأنه لا شفاءَ للقلبِ إلا في أرضهِ .. ولا ارتواءَ للروحِ إلا من ماءِ بلادها . كان حديثهُ عن العودة يطيب نفسَ زهرة ، ويدفعُ مريم للابتسام ، وأصبحت تتحدثُ عن أحلامٍ جميلة ، وبدا أن كوابيسها بدت تغيبُ وتختفي ..
أما أنا ، فقد كانت القدس في قلبي أقربُ من أي شيء .. وكنت أشم رائحة أبي ، وأسمعُ شكوى أمي ، وأتحسسُ جدران البيت في قلبي ، كنتُ أشعرُ في صميمي أننا سنعودُ قريباً ..
بيدَ أنني أشعر أن ثمةَ شيء غائب ، وأن الموجة التي انقضت على حياتنا ، لن تتركَ كل شيء كما كان .. وإن انحسرت .

ذيب عودة

استطعتُ تدبير طريقٍ آمن للعودة ، وعدنا ..
كانت حدّة الحمى في القلبِ تهدأ كلما ظهرت القدس من بعيد ، وتشرق الفرحة على الوجوه الشاحبة ، لقد أعيانا البعد جميعاً .. والآن ، ها هو ذات الطريق الذي عبرناه خائفين وهاربين ، نسلكهُ بثقة وإصرار .. وإن كان موتاً فليكن ، فقد كانت الغربة أدهى وأمرّ ..
عبرنا دروباً وعرة ، وزقاقاً ضيقة ، حتى نصل نحو الممر المؤدي إلى بيت الحاج كنعان ، كنتُ أرى خفقان القلوب المتعبة بريقاً في عيونهن كلما اقتربنا أكثر .. كلما تعرّفت الروح على الرائحة القديمة ، كلما أيقـنّا أننا في المدينة المقدسة ، وفي الاتجاه الصحيح ، هذهِ هي الجدران، هذا هو الطريق .. هذهِ البيوتُ كلها ، موجودة منذ أن فتح القلب جفنيه على هذه المدينة ، كل ما فيها يشيرُ إلينا ، إلى الحياةِ التي كانت هنا ... يوماً .
لكنّ الهواءَ كانت تفوحُ فيهِ رائحةٌ غريبة ، رائحة كالغرباء ...

الحاج أبو يحيى

لم أستطع أن أقول لها في اليومِ الأول ..
كم كان شجاعاً ، كيف أنهم قتلوه ، ثم نكلوا بجسدهِ وسحبوهُ من ساحةِ المسجد حتى باب العامود ، كيفَ أن دماءه الزكية فاحت بالمسك والزعفران ، واختلطت بترابِ الأرض المقدس، وتلونت بحمرتها النقية جدرانُ القدس .
كيف أنني خبأتُ قميصهُ في صندوقي القديم ثم احتضنته طوال الليل ، وكتمتُ نزفَ دمي في شريان القلب ، وأغلقتُ على نفسي الغرفة حتّى أبكيهِ قبل الجميع .
كيفَ أنني تمنيتُ لو أرسلته مع أخواتهِ وخالهِ نحوَ الضفةِ الشرقية ، ثم استغفرتُ ربّي ، عندما أتاني في المنامِ وقال لا تجزع يا أبي ، فقد كنّا رجالاً .
وعندما عـَرَفـَتْ بعد يومين من أحد الجيران ، ابتسمت ولم تصدق ، ثم قضت ليلةً في البكاءِ المرير ، ثم حطمت كل قوارير الزرعِ والأواني الخزفية ، ثم التجأت للصلاة والدعاءِ .. ولم تقل لي شيئاً أيضاً .. ولرُبّما رأتهُ في المنام وأوصاها بأن لا تجزع ، ولـرُبّما .. أخبرها أشياء أخرى ، فقد هدأت ، ورأيتُ علامةَ الرضا في عينيها ..
وبدت الأشياء عادية ، لكنها لم تعد كما كانت .. استوطنَ القدس غرباء ، كثيرون ممن رحلوا لم يعودوا .. ولمْ يعد أحد من السفرِ سالماً . كل قلبٍ حمل خسارتهُ المرّة . غيرَ أني كلما توجهتُ للصلاة ، كنت أشعر خطواتهِ تنبضُ في عروق المكان ، وأن لا دماً يغيض هدراً فوق هذه الأرض ، وكانت القبة ذهبية رغم الأسى .. وكلّ ما فيها يشير إلينا رغم كلّ شيء.

بقلم : a.qarawani
::

 
Arabization 3alymni-b