قال الله تبارك وتعالى في سورة القصص :
( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ )
جاء في فتح القدير للشوكاني رحمه الله تعالى في معرض تفسيره لقوله تعالى( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا) أي دخل موسى المدينة مستخفياً قيل : لما عرف موسى ما هو عليه من الحق في دينه عاب ما عليه قوم فرعون وفشا ذلك منه ، فأخافوه فخافهم ، فكان لا يدخل المدينة إلا مستخفيا) . فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ) أي : ممن شايعه على دينه ، وهم بنو إسرائيل ( وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ )أي : من المعادين له على دينه وهم قوم فرعون (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ) أي : طلب منه أن ينصره ويعينه على خصمه (عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) أغاثه لأن نصر المظلوم واجب في جميع الملل .
قيل : أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا لمطبخ فرعون فأبى عليه واستغاث بموسى( فَوَكَزَهُ مُوسَى )الوكز الضرب بجمع الكف ، وهكذا اللكز واللهز . وقيل : اللكز على اللحى ، والوكز على القلب . وقيل : ضربه بعصاه .
ثم يتابع الشوكاني (فَقَضَى عَلَيْهِ) أي قتله . قيل : لم يقصد موسى قتل القبطي ، وإنما قصد دفعه فأتى ذلك على نفسه ، ولهذا (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل ؛ لأنه لم يكن إذ ذاك مأمورا بقتل الكفار .
وقيل : إن تلك الحالة حالة كف عن القتال لكونه مأمونا عندهم ، فلم يكن له أن يغتالهم .
ثم وصف الشيطان بقوله :(إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) أي : عدو للإنسان يسعى في إضلاله ، ظاهر العداوة والإضلال.
وفي تفسير البغوي جاء في شرحه لقوله تعالى (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، والاستغاثة : طلب الغوث فغضب موسى واشتد غضبه ; لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم.
وهنا أودّ أن أقول بخصوص قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)
كأن موسى عليه السلام يريد أن يشير إلى حقيقة أن الغضب من الشيطان فهو تسبب بقتل نفس لم يؤمر بقتلها .
ويصدق هذا الاستنتاج قول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم : ( إن الغضب من الشيطان، خُلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ) رواه أبو داود.
وعن سلمان ابن صرد قال: ( إستب رجلان عند النبي فجعل أحدهما تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه، قال رسول الله : ( إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. ) [رواه مسلم].
ثم طلب سيدنا موسى عليه السلام من الله - سبحانه - أن يغفر له ما وقع منه .
(قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ووجه استغفاره أنه لم يكن لنبي أن يقتل حتى يؤمر وموسى - عليه السلام - ما زال نادما على ذلك خائفا من العقوبة بسببه : حتى إنه يوم القيامة عند طلب الناس الشفاعة منه يقول : إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها ، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح .